قاعدة: يلزم من ترك السنة الوقوع في المكروه
لا يَكادُ البَّاحِثُ
فِي كُتُبِ الأصُولَّيينَ أنْ يَجِدَ فَصْلًا أو مَبْحَثًا مُسْتَقِلًا لِقَاعِدَتِنَا
هَذِهِ، إلَّا أنَّني نَسْتَطِيعُ أنْ نُقَرِّرَ حُكْمًا لهَا مِنْ خِلالِ دَلَالَةِ
الالْتِزَامِ، فَأقُولُ وبِاللهِ التَّوفِيقِ:
قَاعِدَتُنا هَذِهِ؛ فَرعٌ عنْ قَاعِدَةٍ
أصُولِيَّةٍ مَشْهُورَةٍ، وهِيَ: "أنَّ الأمْرَ بِالشَّيءِ؛ يَسْتَلْزِمُ
النَهْيَ عَنْ ضِدِّهِ" مِنْ جِهَةِ
المعْنَى لَا مِنْ جَهَةِ اللَّفْظِ عِنْدَ أكْثَرِ الأصُولَّيينَ، مِنَ: المالِكِيَّةِ([1]) والشَّافِعيَّةِ([2]) والحَنَابِلَةِ([3])،
وعِنْدَ الحَنَفِيَّةِ([4]): "يَقْتَضِي كَرَاهِةَ ضِدِّهِ".
وقَوْلُنَا: "الأمْرُ بِالشَّيءِ ..."؛ يَعُمُ
أمْرَ الإيجابِ أوْ أمْرَ النَّدبِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُم عِندَ كَثِيرٍ مِنَ الأصُولَّيينَ([5])، وَعَلَيهِ؛ فَإنَّهُ "يَلْزَمُ مِنْ
أمْرِ النَّدبِ؛ النَّهْيُ عَنْ ضِدِّهِ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ".
ومِنَ الأصُوليَّينَ([6]):
مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ كَوْنِ الأمْرِ أمْرَ أيجَابٍ أوْ أمْرَ نَدْبٍ، فَجَعَلَ مَا
كَانَ أمْرَ إيجَابٍ نَهيًا عَنْ ضِدِّهِ، بِخِلافِ مَا كَانَ أمْرَ نَدْبٍ، وَعَلَيهِ؛ فَإنَّهُ "لا يَلْزَمُ مِنْ أمْرِ النَّدبِ؛ أنْ يَكُونَ نَهْيًا عَنْ
ضِدِّهِ".
ونَفَى ابْنُ دَقِيقِ العِيدِ : -وَغَيرُهُ مِنَ العُلَمَاءِ([7])- أنْ يَكُونَ ثَمَّةَ تَلَازُمٌ بَيْنَ فِعْلِ المـــُسْتَحَبِّ
وكَرَاهَةِ تَرْكِهِ، فَقَالَ :: ( وَلْيُعْلَمْ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِنَا "
يُسْتَحَبُّ فِعْلُ كَذَا " وَبَيْنَ قَوْلِنَا " يُكْرَهُ تَرْكُهُ
" فَلَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا، فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مُسْتَحَبَّ الْفِعْلِ،
وَلَا يَكُونُ مَكْرُوهَ التَّرْكِ، كَصَلَاةِ الضُّحَى مَثَلًا، وَكَثِيرٍ مِنْ
النَّوَافِلِ )([8]).
إلا أنَّ تَقِيَّ الدِّينِ السُّبْكِيَّ : يَقُولُ: ( فَإنَّ السُّنةَ المــُـؤكَدَةَ مِنْها مَا
يَقْوى الدَّلِيلُ عَلَى كَرَاهَةِ تَرْكِهَا، بَلْ غَالِبُها كَذَلِكَ، أوْ كُلُّها،
فَإنَّ السُّنَةَ المــُـؤكَدَةَ قَرِيبَةٌ مِنَ الوَاجِبِ، كَمَا أنَّ المـَكْرُوهَ
قَرِيبٌ مِنْ المـُحَرَّمِ، وهُمَا مُتَقَابِلانِ، والأشْيَاءُ تُعْرَفُ بِأضْدَادِهَا،
فَكَمَا أنَّ تَرْكَ الوَاجِبِ حَرَامٌ؛ فَتَرْكُ السُّنَةِ المُؤكَدَةِ مَكْرُوهٌ،
وَدَرَجَاتُ التَّأكِيدِ تَخْتَلِفُ، فَكُلَّمَا عَظُمَتْ ظَهَرَتِ الكَرَاهَةُ،
وإذَا خَفَّتْ خَفِيَتْ )([9]).
ومِنْ خِلالِ
مَا قَالَهُ تَقِيُّ
الدَّينِ السُّبْكِيُّ : يَتَبِيَّنُ لنَا أمْرَانِ:
الأوَّلُ: تَقْرِيرُهُ : أنَّ تَرْكَ الوَاجِبِ
حَرَامٌ، وبِالتَّالي؛ تَرْكُ المـَنْدُوبِ مَكْرُوهٌ، لِأنَّ حَدَّ الوَاجِبِ وَحَدَّ
الحَرَامِ مُتَضَادَانِ، وكَذَلِكَ؛ حَدُّ المـَكْرُوهِ وَحَدُّ المنْدُوبِ، فَيلْزَمُ
مِنِ ارْتِفَاعِ أحَدِهِمَا وُجُودُ الآخَرِ إذَا لمْ يَكُنْ لَهُ إلا ضِدٌّ واحِدٌ،
أمَّا إذَا كَانَ لَهُ أضْدَادٌ؛ فَلَا يَلْزَمُ.
الثَّانِي: أنَّ المـُرادَ بَالمنْدُوبِ
الَّذِي بِتَرْكِهِ يَكُونُ تَارِكَهُ وَاقِعًا فِي المـَكْرُوهِ؛ هُوَ أعْلَى دَرَجَاتِ
المنْدُوبِ، وهُوَ السُّنَّةُ المـُؤكَدَةُ، وهَذَا مُلاحَظٌ مِنْ خِلَالِ كُتُبِ
كَثِيرٍ مِنَ الفُقَهَاءِ مِنْ خِلَالِ الأحْكَامِ الشَّرعِيَّةِ الَّتِي يَسْتَنْبِطُونَها،
حَيثُ يَنُصُّونَ عَلَى أنَّ مَا كَانَ مِنَ السُّنَنِ مُؤكَّدًا؛ كَانَ تَرْكُهُ
مَكْرُوهًا عِنْدَهُم([10]).
ويُمْكِنُ أنْ
نَجْمَعَ بَيْنَ القَوْلَينِ فَنَقُولُ: إنَّ السُّنَةَ
غَيرَ المـُؤكَدَةِ تُقَابِلُ خِلَافَ الأوْلَى، لاسِيَمَا وَقدْ عَلِمْنَا أنَّ خِلافَ
الأوْلَى أقَلُّ دَرَجَةً مِنَ المـَكْرُوهِ، وأنَّ السُّنَةَ غَيرَ المـُؤكَّدَةِ
أقَلُّ دَرَجَةً مِنَ المـُؤكَدةِ، وَعَلَيهِ فَإنَّنا نَخْرُجُ مِنْ هَذا المــَبْحَثِ
بَقَاعِدَتَينِ:
الأُولَى: أنَّ
"تَرْكَ السُّنَةِ المُؤكَّدَةِ مَكْرُوهٌ"، والثَّانِيةِ: أنَّ "تَرْكَ
السُّنَةِ غَيْرِ المُؤكَّدَةِ؛ خَلَافُ الأوْلَى"([11])،
-واللهُ I أجلُّ واعْلَمُ-.
------------------------------
تأثيرُ
القاعِدَةِ فِي اسْتنبَاطِ الأحْكَامِ مِنَ الأحَاديثِ.
وفِيهِ مَسْألَتَانِ:
المَسْألَةُ الأُولَى: حُكْمُ مَنْ وَاظَبَ
عَلَى تَرْكِ الوِتْرِ والسُّنَنِ الرَّواتِبِ، هَلْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ وَرِوَايَـــتُــــهُ ؟
جُمْهُورُ
الفُقَهَاءِ مِنَ: الحَنَفِيَّةِ([12])، والمالِكِيَّةِ([13])، والشَّافِعيَّةِ([14])، والحَنَابِلَةِ([15]) قَالوا بِـ "إنَّ المُواظَبَةَ عَلَى تَرْكِ الوِتْرِ والسُّنَنِ
الرَّواتِبِ مَكْرُوهٌ"، ونَصَّ الشَّافِعيَّةُ(3) والحَنَابِلَةُ(4) أنَّ الاسْتِدَامَةَ عَلَى التَّركِ يُعَدُّ قَادِحًا
فِي عَدَالَةِ
المـُسْلِمِ المـُكَلَّفِ، وعَلَيهِ؛ تُـــرَدُّ شَهَادَتُهُ.
قَالَ
الإمامُ أحْمدُ :: ( مَنْ تَرَكَ الْوِتْرَ عَمْدًا فَهُوَ رَجُلُ سُوءٍ وَلَا يَنْبَغِي
أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ )([16])، وقَالَ النَّوَويُّ([17]) :: ( مَنْ تَرَكَ السُّنَنَ الرَّاتِبَةَ وَتَسْبِيحَاتِ
الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَحْيَانًا، لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وَمَنِ اعْتَادَ
تَرْكَهَا، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِتَهَاوُنِهِ بِالدِّينِ وَإِشْعَارِ هَذَا
بِقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ بِالْمُهِمَّاتِ )([18]).
ويَظَهرُ
وَجهُ تَأثِيرِ القَاعِدَةِ؛ مِنْ خِلالِ حُكْمِ أهْلِ العِلْمِ
عَلَى أنَّ مَنْ وَاظَبَ عَلَى تَرْكِ الوِتْرِ والسُّنَنِ الرَّواتِبِ بِالكَرَاهَةِ،
وأنَّ مَن اسْتَدَامَ تَرْكَها؛ رُدَّت شَهَادَتُهُ وَرِوَايتُهُ لاسْتِدَامَتِهِ عَلَى تَرْكِ السُّنَنِ، وفِي
ذَلِكَ يَقولُ النَّوَويُّ: ( وَإِنْ كَانَتْ مُوَاظَبَتُهُ عَلَى تَرْكِ
السُّنَنِ مَذْمُومَةٌ وَتُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ؛ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ
بِعَاصٍ )([19]) ا ه.
المَسْأَلَةُ الثَّانِيةُ: حُكْمُ مَنْ
وَاظَبَ عَلَى تَرْكِ الوِتْرِ والسُّنَنِ الرَّواتِبِ؛ هَلْ يُـــعَـــدُّ عَاصِيًا؟
يُقالُ فِي
هَذِهِ المـَسْأَلةِ مِثْلُمَا تَقَدَّمَ فِي المـَسْألةِ الأُولَى مِنْ كَرَاهِةِ
المـُواظَبَةِ عَلَى تَرْكِ السُّنَنِ الرَّواتِبِ والوَتْرِ عِندَ عَامَةِ أهْلِ
العِلْمِ([20]).
وفِي كَوْنِ
المُواظِبِ عَلَى تَرْكِ السُّنَنِ هَلْ يُعَدُّ عَاصِيًا؛ قَوْلانِ لأهْلِ العِلْمِ:
القَولُ الأوَّلُ: إنَّ مَنْ وَاظَبَ عَلَى تَرْكِ الوِتْرِ والسُّنَنِ
الرَّواتِب فَسَقَ، وَعُدَّ عَاصِيًا، ويَأثَمُ عَلَى ذَلِكَ،
ولكِن إثْمُهُ دُونَ إثْمِ تَرْكِ الفَرائِضِ، وَهُو
قَولُ المالِكِيَّةِ([21])،
وَقَولٌ عِنْدَ بَعْضِ الحَنَابِلَةِ([22]).
ويُقالُ فِي وَجهِ ارْتِبَاطِ المَسْأَلَةِ
بِالقَاعِدَةِ؛ مِثْلُمَا قِيلَ فِي المَسْألَةِ الأُولَى، واللهُ تَبَارَكَ وتَعالى
أعْلَمُ.