تعديل

الجمعة، 18 أكتوبر 2019

الذم على الشيء هل يقتضي التحريم؟


قاعدة: الذم على الشيء هل يقتضي التحريم؟

أوَّلًا: التَّعْرِيفُ بِالقَاعِدَةِ:
الذَّمُّ فِي اللُّغَةِ: "اللَّوْمُ فِي الإساءَةِ"، وهو نَقِيضُ الْمَدْحِ، من: ذَمَّهُ يَذُمُّهُ ذَمًّا ومَذَمَّةً، فَهُوَ مَذْمُومٌ([1])، وَالمَقْصُودُ مِنَ قَوْلِنا "الذَّمُ عَلَى الشَّيءِ" أيْ: ذَمُّ   الشَّارِعِ عَلَى فِعْلِ شَيءٍ مُعَينٍ.
والتَّحِريمُ مِنَ الحَرَامِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: المـَمْنُوعُ، مَأخُوذٌ مِنَ الحُرْمَةِ، وَمَعْنَاهَا: المـَنْعُ([2])، وَالمُرَادُ بِاقْتِضَاءِ التَّحِرِيمِ هُنَا: "طَلَبُ التَرْكِ المانعِ مِنَ النَّقِيضِ"([3])، بِمَعْنَى: "اقْتَضَاءُ تَرْكِ الفِعْلِ الجَازِمِ"([4]).  
وَالمَعْنَى الإجْمَالِيُّ لِلقَاعِدَةِ: أنَّ كُلَّ فِعْلٍ قَدْ صَرَّحَ الشَّارِعُ بِذَمِّهِ، أوْ ذَمِّ فَاعِلِهِ؛  سَواءٌ بِصِيغَةِ الذَّمِ المـَعْرُوفَةِ "بِئْسَ"، أوْ مَا فُهِمَ مِنْ سِيَاقِ خِطَابِ الشَّارِعِ أنَّه ذمٌّ وَتَوْبِيخٌ، كَاقْتِرانِ ذَلِكَ بِصَفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الكُفَّارِ أوْ المـُنَافِقِينَ، أوْ نَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإنَّ ذَلِكَ الذَّمَّ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ فِعْلَ ذَلِكَ الفِعْلِ المـَذْمُومِ.
مِثَالُهُ: ذَمُّ النَّبِيِّ r لِمَنْ أخَّرَ صَلَاةَ العَصْرِ إِلى غُرُوبِ الشَّمْسِ دُونَ عُذْرٍ،     وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ r: (( تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ))([5]) ، وَسَتَأتِي دِرَاسَةُ هَذِهِ المـَسْأَلَةِ فِي المــَــطْلَبِ التَّالِي.
ثَانِيًا: أقْوَالُ العُلَمَاءِ فِي القَاعِدَةِ:
إنَّ المـُـتَأمِّلَ فَي المـُـدَوَّنَاتِ الأُصُولِيَّةِ القَدِيَمةِ يَكَادُ يَجْزِمُ أنْ لَا خِلَافَ بَيْنَ الأُصُولِيِّينَ([6]) فِي كَوْنِ كُلِّ فِعْلٍ ذَمَّهُ اللهُ I، أوْ ذَمَّ صَاحِبَهُ عَلَى فِعْلِهِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، مَا لمْ يَقْتَرنْ بِقَرِينَةٍ تَصْرِفَهُ عَنْ هَذَا الأصْلِ.
وَيَظْهَرُ هَذَا جَلِيًّا مِنْ خِلَالِ أمْرَينِ:
أوَّلًا: مَا عَرَّفَ بِهِ كَثْيرٌ مِنَ الأُصُولِيِّينَ "المـُحَرَّمَ" بِقَوْلِهمْ: "مَا يُذَمُّ شَرْعًا فَاعِلُهُ"([7])،   وَنَحوَ هَذَا مِنَ التَّعَارِيفِ([8]).
ثَانِيًا: أقْوَالُ العُلَمَاءِ المـَبْثُوثَةُ فِي كُتُبِ الأُصُولِ، وَذِلِكَ فِي كَوْنِ مَا ذُمَّ مِنَ الفَعْلِ مُحَرَّمًا، نَحوُ قَوْلِ العِزِّ بنِ عَبدِ السَّلَامِ :: ( وكلُ فعلٍ ذُمَّ، أو ذُمَّ فاعِلُه لأجْلِه، أَو وُعِدَ عَلَيْهِ بِشَرٍ عَاجلٍ أَو آجلٍ؛ فهو مُحَرَّمٌ )([9])، وقَولُ القَرَافِيِّ :: ( لِأنَّ الذَّمَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي تَرْكِ وَاجِبٍ أوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ )([10])، وَغَيرُ ذَلِكَ مِنَ الأقْوَالِ([11]).

--------------------------------------------

تَأثِيرُ القَاعِدَةِ فِي الفروع الفقهية.
وَفِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِي:
حُكْمُ تَأخِيرُ صَلَاةِ العَصْرِ إِلى وَقْتِ غُرُوبِ الشَّمْسِ.
هَذِهِ المـَسْأَلَةُ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ حَدِيثٍ أوْرَدَهُ المجْدُ : عَنْ أنَسٍ t قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله r يَقُولُ: (( تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا ))([12])، وفِيهَا قَوْلَانِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: أَنَّهُ يُكْرَهُ تَأخِيرُ صَلَاةِ العَصْرِ إِلى غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ غَيرَ عُذْرٍ، وَهُوَ المـُذْهَبُ عِنْدَ الحَنَفِيِّةِ([13])، والشَّافِعِيَّةِ([14])، وابْنِ حَزْمٍ الظَّاهِرِيِّ([15]).
القَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأخِيرُ صَلَاةِ العَصْرِ إِلى الغُرُوبِ مِنْ غَيرِ عُذْرٍ، وَأنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ عَاصِيًا وَآثِمًا، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ المـَالِكِيَّةِ([16])، وَالمـَذْهَبُ عِنْدَ الحَنَابِلَةِ([17])، وَحُكِيَ اتِّفَاقًا([18]).
واشْتَرَطَ ابْنُ حَزْمٍ([19]) : لِتَأثِيمِ مَنْ أخَّرَ الصَّلَاةَ أنْ يَنْقُرَهَا أرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللهَ    فِيهَا إلَّا قَلِيلًا.
وَيَظْهَرُ وَجْهُ تَأثِيرُ القَاعِدَةِ؛ مِنْ خِلَالِ الذَّمِ الوَارِدِ فِي الحَدِيثِ لَمَنْ أخَّرَ الصَّلَاةَ إِلى وَقْتِ الغُرُوبِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى التَّحِرِيمِ وَالتَّأثِيمِ بِهَذَا التَّأخِيرِ.
قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ([20]) : : ( وَقَوْلُهُ: (( تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِين ))؛ ذَمٌّ لِفِعْلِهِمْ وَتَحْذِيرٌ مِنَ التَّشَبُهِ بِهِمْ بِتَأخِيرِ الصَّلَاةِ لِغَيرِ عُذْرٍ إِلى حِينَئذٍ، مِنِ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ، وَأنَّ تَعْجِيلَ الصَّلَاةِ هُوَ المـَشْرُوعُ، وَتَأخِيرُهَا مَذْمُومٌ مَمْنُوعٌ )([21]).
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ :: ( وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْعَصْرِ عَنْ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَخْبَارِ )، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ t المـُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُ، ثُمَّ قَالَ :: ( وَلَوْ أُبِيحَ تَأْخِيرُهَا لَمَا ذَمَّهُ عَلَيْهِ، وَجَعَلَهُ عَلَامَةَ النِّفَاقِ )([22]).
-----------------------------------


([1]) انظر: تهذيب اللغة (14/415-416)، ومقاييس اللغة (2/346)، واللسان (12/220).
([2]) انظر: المصباح المنير (1/131)، والمعجم الوسيط (1/169)، والكليات (338).
([3]) انظر: الإبهاج لابن السبكي (1/126)، والتوقيف على مهمات التعاريف (300).
([4]) انظر: شرح مختصر الروضة (1/265).
([5]) أخرجه مسلم في "كِتَابِ الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةَ"، "بَابِ اسْتِحْبَابِ التَّبْكِيرِ بِالْعَصْرِ"، (1/434)، برقم (622).
([6]) لمْ أجِدْ مَنْ نَصَّ عَلَى عَدَمِ الخِلَافِ فِي ذَلِكَ، إلَّا أنَّنِي حَكَيْتُهُ بِنَاءً عَلَى مَا اطَّلَعْتُ عَلَيْهِ مِنَ النُّقُولِ الكَثِيرَةِ المـَبْثُوثَةِ فِي كُتُبِ الأُصُولِ، وَقَدْ وجدت الدُّكْتُورُ عَلَيٌّ المـَـطْرُوديُّ نَصَّ عَلَى عَدَمِ الخِلَافِ فِي كِتَابِهِ "الأسَالِيبُ الشَّرْعِيَّةُ الدَّالَةُ عَلَى الأحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ" (898).
([7]) منهاج الوصول للبيضاوي (56).
([8]) انظر: شرح تنقيح الفصول (62)، والبحر المحيط (1/255)، وتحرير المنقول (113).
([9]) الإمام في بيان أدلة الأحكام (275-276).
([10]) شرح تنقيح الفصول (104).
([11]) انظر: المعتمد لأبي الحسن البصري (1/365)، وقواطع الأدلة للسمعاني (1/138-139، و312)، والموافقات للشاطبي (3/422-423)،  
([12]) تقدم تخريجه (243).
([13]) انظر: المبسوط (1/292)، وبدائع الصنائع (1/408).
([14]) انظر: المجموع (3/24)، وكفاية النبيه لابن الرفعة (2/336).
([15]) انظر: المحلى (3/557).
([16]) انظر: المقدمات والممهدات (1/151-152)، والذخيرة (2/24)، والتوضيح شرح مختصر ابن الحاجب (1/261).
([17]) انظر: المغني (2/16)، والشرح الكبير (3/149).
([18]) حَكَاهُ النَّوَويُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (5/108)، والشَّوْكَانِيُّ فِي النَّيلِ (3/83)، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ :: ( وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُهُمْ الِاتِّفَاقَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّأْخِيرِ إلَى هَذَا الْوَقْتِ لِمَنْ لَا عُذْر لَهُ ).
([19]) انظر: المحلى (3/390-391).
([20]) هو: القَاضِي عِيَاضٌ بنُ مُوْسَى بنِ عِيَاضٍ اليَحْصَبِيُّ الأَنْدَلُسِيُّ، ثُمَّ السَّبْتِيُّ، وُلِدَ: فِي سَنَةِ 476 ه، وتُوفِّيَ سَنَةَ 544 ه، صَنَّفَ: إكمال المعلم في شرح صحيح مسلم، كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى r. انظر: الديباج المذهب (2/46)، وشجرة النور الزكية (1/205).
([21]) إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/587).
([22]) المغني (2/16).