قاعدة: الاستثناء من النفي؛ هل هو
إثبات؟
أوَّلًا: التَّعْرِيفُ
بِالقَاعِدَةِ:
الاسْتِثْنَاءُ فِي اللُّغَةِ:
بِمَعْنَى "العَطْفِ والرَّدِ"، فَهُوَ اسْتِفْعَالٌ، مِنْ ثَنَيْثُ الشَّيْءَ، أَثْنِيهِ ثَنْيًا، إِذَا: عَطَفْتَهُ
وَرَدَدْتُهُ([1])، وَاصْطِلَاحًا:
"الْإِخْرَاجُ بِإِلَّا أَوْ إحْدَى أَخَوَاتِهَا"([2]).
وَالاثْبَاتُ فِي اللُّغَةِ: بِمَعْنَى
"الاسْتِقْرَارِ"، يُقَالُ: ثَبَتَ الشَّيْءُ، يَثْبُتُ ثُبُوتًا؛ إِذَا: دَامَ وَاسْتَقَرَّ([3])، وَقَدْ
تَقَدَّمَ تَعْرِيفُ النَّفْيِّ([4]).
وَالمَعْنَى
الإجْمَالِيُّ لِلقَاعِدَةِ؛ هَلْ المـُسْتَثْنَى -وَهُوَ
مَا بَعْدَ إِلَّا أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا- يِكُونُ مُثْبَتًا بِخِلَافِ المـُسْتَــثْنَى
مِنْهُ إِذَا كَانَ مَنْفَيًّا؛ أَوْ لَا ؟
ثَانِيًا:
أقْوَالُ العُلَمَاءِ فِي القَاعِدَةِ:
اخْتَلَفَ
العُلَمَاءُ فِي قَاعِدَتِنَا عَلَى قَوْلَينِ:
القَوْلُ الأَوَّلُ:
ذَهَبَ
أَئِمَّةُ أَهْلِ اللُّغَةِ([5])، وَجُمْهُورُ
الأُصُولِيِّينَ([6]) مِنَ:
المالِكِيَّةِ([7])([8])، وَالشَّافِعِيَّةِ([9])، وَالحَنَابِلَةِ([10]),
وَبَعْضِ الحَنَفِيَّةِ([11]) إِلى
القَوْلِ بِـ"أَنَّ الاسْتَثْنَاءَ مِنَ النَّفَيِّ إِثْبَاتٌ".
وَالقَوْلُ الثَّانِي؛ قَالَ
بِهِ أَكْثَرُ الحَنَفِيَّةِ([12])؛
وَهُوَ: "أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ
مِنَ النَّفْيِّ لَيْسَ بِإِثْبَاتٍ"، وَأَنَّ المـُسْتَثْنَى
مَسْكُوتٌ عِنْ حُكْمِهِ، وَفَائِدَةُ الاسْتِثْنَاءِ حِيْنَئذٍ إِنَّمَا هِيَ إِخْرَاجُ
المـُسْتَثْنَى عَنْ دُخُولِهِ فِي المـُسْتَثْنَى مِنْهُ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِنَفْيِهِ
وِلَا إِثْبَاتِهِ.
وَيَتَّضِحُ جَلِيًّا مَحَلُّ النِّزَاعِ
فِي قَاعِدَتِنَا بَيْنَ الحَنَفِيِّةِ وَالجُمْهُورِ مِنْ خِلَالِ مَا قَالَهُ القَرَافِيُّ :،
حَيْثُ قَالَ: ( اتَّفَقَ العُلَمَاءُ -أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ- عَلَى أَنَّ
"إِلَّا" لِلإِخْرَاجِ, وَأَنَّ الْمُستَثْنَى مُخْرَجٌ, وَأَنَّ كُلَّ
مَنْ خَرَجَ مِنْ نَقِيضٍ دَخَلَ فِي النَّقِيضِ الآخَرِ, فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ
مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَبَقِيَ أَمْرٌ رَابِعٌ مُخْتَلَفٌ فِيْهِ, وَهُوَ: أَنَّهُ
إِذَا قُلْنَا "قَامَ القَوْمُ" فَهُنَاكَ أَمْرَانِ: القِيَامُ وَالحُكْمُ
بِهِ, فَاخْتَلَفُوا: هَلْ الْمُستَثْنَى يَخْرُجُ مِنَ القِيَامِ, أَوْ الحُكْمِ
بِهِ؟ فَنَحْنُ نَقُولُ: مِنَ القِيَامِ, فَيَدْخُلُ فِي نَقِيضِهِ -وَهُوَ عَدَمُ
القِيَامِ-, وَالحَنَفِيَّةُ يَقُولُونَ: هُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ الحُكْمِ, فَيَخْرُجُ
لِنَقِيْضِهِ -وَهُوَ عَدَمُ الحُكْمِ-, فَيَكُونُ غَيْرُ مُحْكُومٍ عَلَيْهِ, فَأَمْكَنَ
أَنْ يَكُونُ قَائِمًا وَألَّا يِكُونُ قَائِمًا, فَعِنْدَنَا انْتَقَلَ إِلى عَدَمُ
القِيَامِ, وَعِنْدَهُمْ انْتَقَلَ إِلَى عَدَمِ الحُكْمِ, وِعِنْدَ الفَرِيقَينِ
مُخْرَجٌ وَدَاخِلٌ فِي نَقِيْضِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ, فَافْهَمْ ذَلِكَ حَتَّى يَتَحَرَّرَ لَكَ مَحَلُّ النِّزَاعِ )([13]) اﻫ.
--------------------------------------------
تَأثِيرُ القَاعِدَةِ فِي الفروع الفقهية.
وَفِيْهِ مَسْأَلَةٌ
وَاحِدَةٌ، وَهِيَ:
هَلْ تُؤدَّى الفَائِتَةُ فِي اليَوْمِ
التَّالِيِ مَعَ أَدَاءِهَا وَقْتَ ذِكْرِهَا؟
جُمْهُورُ
أَهْلِ العِلْمِ([14])؛ "أَنَّ
مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا، ثُمَّ ذَكَرَهَا، فَإِنَّهُ يُعِيْدُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً إِذَا ذَكَرَهَا،
وَلَا يُعِيْدُهَا مَرَّةً ثَانِيَةً".
وَثَمَّةَ
قَوْلٌ آَخَرُ([15]): "أَنَّهُ
يُعِيْدُهَا إِذَا ذَكَرَهَا، ثُمَّ يُعِيْدُهَا مِنَ الغَدِ لِوَقْتِهَا"،
وَهَذَا القَوْلُ مَنْسُوبٌ لِبَعْضِ
الصَّحَابَةِ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ، وَنَفَرٍ مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ([16]).
وَجْهُ
ارْتِبَاطِ المَسْأَلَةِ بِالقَاعِدَةِ:
يَظْهَرُ وَجْهُ تَأْثِيرِ القَاعِدَةِ
فِي مَسْأَلَتِنَا مِنْ خِلَالِ مَا أَوْرَدَهُ المجْدُ ابْنُ تَيْمِيَةَ : مِنَ الأَحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا
جُمْهُورُ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّ مَنْ نَامَ
عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا، ثَمَّ
ذَكَرَهَا، فَإِنَّهُ يُعِيدُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً إِذَا ذَكَرَهَا، وَلَا يُعْيدُهَا
مَرَّةً ثَانِيَةً"، وَمِنْهَا حَدِيثُ: (( مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا
لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ ))([17]).
وَوَجْهُ
الدَّلَالَةِ مِنَ الحَدِيثِ قَوْلُهُ r: (( لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ ))، وَفِيهِ أَنْ لَيْسَ عَلَى مِنْ نَامَ
عَنْ صَلَاتِهِ أَوْ نَسِيَهَا كَفْارَةٌ إِلَّا أَنْ يُؤَدِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا،
فَفِي الحَدِيثِ اثْبَاتٌ اسْتُثْنِيَ مِنْ نَفْيٍ، وَالاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ
اثْبَاتٌ، وَاللهُ I أَعْلَمُ.
([8]) اسْتَثْنَى المـَـالِكِيَّةُ مِنْ هَذِهِ
القَاعِدَةِ: الأَيْمَانِ، بِمَعْنَى: أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِّ لَيْسَ
بِإِثَبِاتٍ فِي الأَيْمَانِ". قَالَ القَرَافِيُّ ::
( اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ :: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ فِي غَيْرِ الْأَيْمَانِ, هَذِهِ قَاعِدَتُهُ فِي الْأَقَارِيرِ، وَقَاعِدَتُهُ
فِي الْأَيْمَانِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ لَيْسَ بِإِثْبَاتٍ )
اﻫ. انظر: الفروق (2/525)، الفرق رقم (72).
([16]) قَالَ الخَطَّابِيُّ : فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ (1/139): ( فَلَا أَعْلَمُ
أَحَدًا مِنَ الفُقَهَاءِ قَالَ بِهَا وُجُوبًا وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الأَمْرُ
بِهِ اسْتِحْبَابًا، لِيُحْرِزَ فَضِيْلَةَ الوَقْتِ فِي القَضَاءِ )، وَتَعَقَّبَهُ
ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: (لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ بِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ
أَيْضًا ). إِلَّا أَنَّ البُخَارِيَّ : بَوَّبَ فِي صَحِيحِهِ (1/472) بَابًا فِي
كِتَابِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ بِعِنْوانِ: "بَابُ مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَ، وَلاَ يُعِيدُ
إِلَّا تِلْكَ الصَّلاَةَ"، انظر:
المبحث الرابع عشر من هذا الفصل (335).