قاعدة: المفهوم حجة.
أوَّلًا: التَّعْرِيفُ
بِالقَاعِدَةِ:
المَفهُومُ
فِي
اللُّغَةِ:
"المَعْلُومُ"، فَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مَنْ "فَهِمَ"،
يُقَالُ: فَهِمَهُ فَهْمًا وَفَهَمًا وَفَهَامَةً:
عَلِمَهُ، وَفَهِمْتُ الشَّيْءَ: عَقَلتُهُ وَعَرَفْتُهُ([1]).
وَالمَفْهُومُ عِنْدَ
الأُصُولِيَّينَ: "مَا دَلَّ
عَلَيْهِ اللَّفْظُ لَا فِي مَحَلِّ النُّطْقِ"([2])، وَدَلَالَتُهُ
تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَينِ:
1-
"مَفهُومُ مُوافَقةٍ"؛ وَهُوَ
: "أنْ يكون المــَسْكُوتُ عَنهُ مُوافِقًا في الحُكْمِ للمَنْطُوقِ أَوْ أوْلى
مِنْهُ"([3])، وَيُسَمَّى "فَحْوَى الخِطَابِ"
وَ"لَحْنُ الخِطَابِ"([4]).
2-
وَ"مَفهُومُ مُخَالَفَةٍ"؛ وَهُوَ:
"أَنْ يَكُونَ الـمَسْكُوتُ عَنهُ مُخَالِفًا لِلمَنْطُوقِ فِي الْحُكْمِ"([5])، وَيُسَمَّى "دَلِيلَ
الخِطَابَ".
وَالمَعْنَى
الاجْمَالِيُّ لِلقَاعِدَةِ؛ أَنَّ الخِطَابَ الشَّرْعِيَّ
إِذَا فُهِمَ مِنْهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لَا مِنَ اللَّفْظِ نَفْسِهِ؛ وَإِنَّمَا مِنْ
طَرِيقٍ آَخَرَ، كَمُوَافَقَةِ الحُكْمِ لِلمَنْطُوقِ أَوْ كَوْنِهِ أَوْلَى مِنْهُ،
أَوْ كَانَ مُخَالِفًا لِلمَنْطُوقِ فِي الحُكْمِ؛ فَإِنَّ هَذَا الفَهْمَ حُجَّةٌ
شَرْعِيَّةٌ فِي اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ
الشَّرْعِيَّةِ.
ثَانِيًا: أقْوَالُ العُلَمَاءِ فِي القَاعِدَةِ:
اتَّفَقَ([6])([7]) جُمْهُورُ
الأُصُولِيِّينَ([8]) مِنَ:
الحَنَفِيَّةِ([9])، وَالمـَـالِكِيَّةِ([10])،
وَالشَّافِعِيَّةِ([11])، وَالحَنَابِلَةِ([12])؛
إِلى أَنَّ "مَفْهُومَ الْمُوافَقَةِ دَلِيْلٌ صَحِيْحٌ، وَحُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ"
يُسْتَدَلُّ بِهَا فِي إثْبَاتِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَاخْتَلَفُوا
فِي "تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ؛ هَلْ يَدُلُّ عَلَى نَفَيِّ الحُكْمِ
عَمَّا عَدَاهُ" عَلَى قَوْلَينِ:
القَوْلُ الأَوَّلُ: "لَا يَكُونُ فِي تَخْصِيصِ
الشَّيْءِ
بِالذِّكْرِ دَلَالَةٌ عَلَى نَفيِّ الحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ", بَلْ
هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ, وَيَثْــبُتُ حُكْمُهُ مُوَافِقًا لِلمَنْطُوقِ أَوْ
مُخالِفًا بِدَلِيلٍ آَخَرَ, وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ
الحَنَفِيَّةِ([13])
والظَّاهِرِيَّةِ([14])، وَبَعْضُ
المالِكِيَّةِ([15]) والشَّافِعِيَّةِ([16]).
القَوْلُ الثَّانِي:
"تَخْصِيصُ
الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ", فَهُوَ
حُجَّةٌ تَثْــبُت بِهَا الأَحْكَامُ مَا لَمْ يِمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ, وَهُوَ
قَوْلُ: الأَكْثَرِينَ([17]) مِنْ أَصْحَابِ
مَالِكٍ([18]) وَأَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ([19]), وَالمـَـذْهَبُ
عِنْدَ الحَنَابِلَةِ([20]), وَقَوْلٌ
عِنْدَ بَعْضِ الحَنَفِيَّةِ([21])، وَنَسَبَهُ بَعْضُ الأُصُولِيِّينَ إِلى الظَّاهِرِيَّةِ([22]).
------------------------------
تَأثِيرُ القَاعِدَةِ فِي الفروع
الفقهية.
وَفِيْهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المَسْأَلَةُ الأُوْلَى: هَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ
قَبْلَ وَقْتِهَا؟
القَولُ
المُعْتَمدُ والمُعَوَّلُ عَلَيْهِ
فِي هَذِهِ المـَـسْأَلَةِ؛ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ العِلْمِ([23])؛ أَنَّ الصَلَّوَاتِ
الخَمْسِ مُؤقَّتَةٌ بِمَوَاقِيتَ مَعْلُومَةٍ وَمُحَدَّدَةٍ، وَأَنَّ مَنْ صَلَاهَا
قَبْلَ وَقْتِهَا، كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا، سَواءٌ فَعَلَهَا عَمْدًا أَوْ
خَطَأً؛ لَا تَصِحُّ مِنْهَ، وَعَلَيْهِ الإِعَادَةُ، وَحُكِيَ إِجْمَاعًا([24])([25]).
وَجْهُ ارْتِبَاطِ المَسْأَلَةِ بِالقَاعِدَةِ:
ذَكَرَ المجْدُ ابْنُ تَيْمِيَةَ : ثُلَّةً
مِنْ أَحَادِيثِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، مِنْ بِيْنِهَا حَدِيثُ السَّائِلِ عَنْ أَوْقَاتِ
الصَّلَاةِ، وَفِيْهِ قَوْلُهُ r: (( الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَينِ ))([26])، وَمَفْهُومُهُ؛
"أَنَّ مَا لَيْسَ بَيْنَ هَذِينِ الوَقْتِينِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلصَّلَاةِ"،
وَهُوَ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ.
قَالَ ابْنُ
حَزْمٍ :: ( فَإِنَّ الله تَعَالَى قَدْ حَدَّ أَوْقَاتَ الصَّلَاةِ
عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ r، وَجَعَلَ لِكُلِّ وَقْتِ صَلَاةٍ مِنْهَا
أَوَّلًا لَيْسَ مَا قَبْلَهُ وَقْتًا لِتَأْدِيَتِهَا، وَآخِرًا؛ لَيْسَ مَا بَعْدَهُ وَقْتًا؛ لِتَأْدِيَتِهَا، هَذَا مَا
لَا خِلَافَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْأُمَّةِ ) ([27]).
-----------------------------------------
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَنْ أَخْرَجَ
الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا مُتَعَمِّدًا؛ هَلْ يِقْضِيهَا؟
تَقَدَّمَ
بَحْثُ هَذِهِ المـَـسْأَلَةِ([28])،
وَأَنَّ فِيْهَا قَوْلَانِ لِأَهْلِ العِلْمِ: قَوْلٌ لِجُمْهُورِ العُلَمَاءِ([29])،
بِـ"وُجُوبِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ لِمَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا"،
وَحُكِيَ إِجْمَاعًا([30]).
وَقَوْلٌ
آَخَرَ؛ ذَكَرَهُ
ابْنُ حَزْمٍ : بِعَدَمِ
القُدْرَةِ عَلَى قَضَاءِهَا وَصِحَّتِهَا مِنْهُ لَوْ فَعَلَهَا أَبَدًا، وَأَنَّ
فِعْلَهَا بَعْدَ وَقْتِهَا كَفِعْلِهَا قَبْلَ وَقْتِهَا، وَادَّعَى -أَيْضًا-
الإِجْمَاعَ([31]).
وَيَظْهَرُ وَجْهُ ارْتِبَاطِ المَسْأَلَةِ
بِالقَاعِدَةِ؛ مِنْ خِلَالِ
مَا أَوْرَدهُ المجْدُ ابْنُ تَيْمِيَةَ : فِي
المـُــنْتَقَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ t،
وَفِيْهِ: (( إنَّهُ
لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ إنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ، فَإِذَا
نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا ))([32]).
قَالَ
ابْنُ عَبْدِ البَرِّ :: ( وَلَيْسَ فِي تَخْصِيصِ النَّائِمِ وَالنَّاسِي
بِالذِّكْرِ فِي قَضَاءِ الصَّلَاةِ مَا يُسْقِطُ قَضَاءَهَا عَنِ الْعَامِدِ
لِتَرْكِهَا حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا، بَلْ؛ فِيهِ أَوْضَحُ الدَّلَائِلِ عَلَى
أَنَّ الْعَامِدَ الْمَأْثُومَ أَوْلَى أَنْ يُؤْمَرَ بِالْقَضَاءِ مِنَ النَّاسِي
الْمُتَجَاوَزِ عَنْهُ، وَ النَّائِمِ الْمَعْذُورِ )([33]).
وَقَالَ التِّلْمِسَانِيُّ : : ( وَاعْلَمْ؛ أَنَّ مَفْهُومَ المُوَافَقَةِ
يِنْقَسِمُ إِلى جَلِيٍّ وَخَفِيٍّ...، وَالخَفِيُّ كَمَا يَقُولُ أَصْحَابُنَا: فِي
تَارِكِ الصَّلَاةِ مُتَعَمِّدًا؛ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا بِقَوْلِهِ r: (( مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا
إِذَا ذَكَرَهَا ))، قَالُوا:
فَإِذَا كَانَ النَّائِمُ وَالسَاهِي يِقْضِيَانِ الصَّلَاةِ وَهُمَا غَيْرُ مُخَاطَبِيْنِ؛
فَلَأنْ يِقْضِيْهَا العَامِدُ أَوْلَى )([34]) .
--------------------------------
المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلْ يَحْبَطُ
عَمَلُ مَنْ فَاتَتَهُ غَيْرُ صَلَاةِ العَصْرِ؟
ذَكَرَ أَهْلُ العِلْمِ([35]) أَنَّ تَخْصِيصَ "صَلَاةِ العَصْرِ" بِالذِّكْرِ
- فِي الحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ
المجْدُ ابْنُ تَيْمِيَةَ : فِي
المـُــنْتَقَى مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ
الْأَسْلَمِيِّ t، قَالَ:
كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ r فِي
غَزْوَةٍ، فَقَالَ: (( بَكِّرُوا
بِالصَّلَاةِ فِي الْيَوْمِ الْغَيْمِ، فَإِنَّهُ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ
الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ ))([36]) - أَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالذِّكْرِ، وَذَلِكَ لِفَضْلِهَا
وَشَرَفِهَا مِنْ بَيْنِ الصَّلَواتِ الخَمْسِ، وَلِهَذَا كَانَتْ هِيَ "الصَّلَاةُ
الوُسْطَى"([37]) عَلَى القَوْلِ الرَّاجِحِ.
وَزَعَمَ بَعْضُ
العُلَمَاءِ([38]): أَنَّ هَذَا لَا يَخْتَصُّ بِفَوَاتِ "صَلَاةِ
العَصْرِ"، وَأَنَّ سَائِرَ الصَّلَواتِ
فَوَاتُهَا كَفَوَاتِ العَصْرِ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ تَخْصِيصَ العَصْرِ بِالذِّكْرِ
إِنَّمَا كَانَ بِسُؤَالِ سَائِلٍ سَأَلَ
عَنْهُ فَأُجِيبَ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ([39]) :.
وَيَظْهَرُ وَجْهُ تَأْثِيرِ القَاعِدَةِ؛
مِنْ خَلَالِ قَوْلِ الإِمَامِ ابْنِ القَيِّمِ :: (فَإِنْ
قِيْلَ: فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَخْصِيصِ صَلَاةِ العَصْرِ بِكَوْنِهَا مُحْبِطَةً
دُوْنَ غَيرِهَا مِنَ الصَّلَواتِ؟ قِيْلَ: الحَدِيثُ لَمْ يِنْفِ الحُـبُوطَ بِغَيْرِ
العَصْرِ إِلَّا بِمَفْهُومِ لَقَبٍ، وَهُوَ مَفْهُومٌ ضَعِيفٌ جِدًا، وَتَخْصِيصُ
العَصْرِ بِالذِّكْرِ لِشَرَفِهَا مِنْ بَيْنِ الصَّلَواتِ، وَلِهَذَا كَانَتْ هِيَ
الصَّلَاةُ الوُسْطَى بِنَصِّ رَسُولِ اللهِ r الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ )([40]).
([36])
أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهَ فَي "أَبْوَابِ
مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ"، "بابِ مِيقَاتِ الصَّلَاةِ فِي الْغَيْمِ"
(1/442)، بِرَقْمِ (694)، وَضَعَّفَ إِسْنَادَهُ الأَلْبَانِيُّ :
في الإِرْوَاءَ (1/276-277)، برقم (255)، وَقَالَ ::
( وَالخُلَاصَةُ أَنَّهُ لَا يِصْحُّ مِنَ الحَدِيثِ إِلَّا قَوْلَهُ r: (( مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ
)) )، يَعْنِي بِذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ
البُخَارِيُّ فِي "كِتَابِ
مَوَاقِيتِ الصَّلاَةِ"، "بَابِ مَنْ تَرَكَ العَصْرَ" (1/453)، برقم
(558).