دلالة الاقتران([1]) وبيان أثرها في الفروع الفقهية
أوَّلًا: التَّعْرِيفُ
بِالقَاعِدَةِ:
الــدَّلَالَـــةُ فِي اللُّغَةِ: "الْإِرْشَادُ وَالْهِدَايَةُ"([2]) وَهِيَ
مَصْدَرُ: دَلَّ، يَدُلُّ، دَلَالَةً وَدِلَالَةً،
فَهُوَ دَالٌّ وَدَلِيْلٌ، تَقُوْلُ: دَلَلْتُ فُلَانًا عَلَى
الطَّرِيْقِ؛ إِذَا أَرْشَدْتُهُ وَهَدَيْتُهٌ إِلَيْهِ([3]).
وَفِي
الاصْطِلَاحِ: "الإِرْشَادُ"([4])، وَقِيلَ: "هِيَ كَوْنُ الشَّيْءِ بِحَالَةٍ يَلْزَمُ مِنَ الْعِلْمِ
بِهِ الْعِلَمُ بِشَيْءٍ آخَرَ", فَالشَّيْءُ
الأَوَّلُ
يُسَمَّى دَالًّا
وَدَلِيْلًا,
وَالآخَرُ
يُسَمَّى
مَدْلُولًا
وَمَطْلُوبًا([5]).
وَالاقْتِرَانُ
فِي اللُّغَةِ: "الجَمْعُ بَيْنَ الشَيئينِ"([6])، وَتَعْرِيفُهُ
عِنْدَ الأُصُولِيِّينَ؛ مُخْتَلَفٌ
فِيْهِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي حُكْمِهِ، وِأَنْسَبُ مَا قِيلَ فِيْهِ:
"أنَّ يَرِدَ لَفْظٌ لِمَعْنًى، وَيَقْتَرِنَ بِهِ لَفْظٌ آخَرَ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ
المـَعْنَى وَغَيْرَهُ"([7])،
وَصُورَتُهُ عِنْدَهُمْ: بِمَعْنَى التَّعْرِيفِ([8]).
وَالمَعْنَى الإجْمَالِيُّ لِلقَاعِدَةِ، إِذَا جَمَعَ الشَّارِعُ بَيْنَ شَيْئَينِ
فِي حُكْمٍ؛ وَقَدْ بَيَّنُ حُكْمَ أحَدِهِمَا؛ فَهَلْ يَدُلُّ الاقْتِرَانُ بِيْنَهُمَا
عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ الحُكْمِ لِلآخَرِ؟
ثَانِيًا: أقْوَالُ العُلَمَاءِ فِي
القَاعِدَةِ:
القُوْلُ الأَوَّلُ: هُوَ
قَوْلُ جُمْهُورِ الأُصُولِيِّينَ([9])؛
مِنَ الحَنَفِيَّةِ([10]), وَالمـَـالِكِيَّةِ([11]),
وَالشَّافِعِيَّةِ([12]), وَأَكْثرُ
الحَنَابِلَةِ([13]), أنَّ
دَلَالَةَ الاقْتِرَانِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ، وِأَنَّ القِرَانَ فِي النَّظْمِ
لَا يُوجِبُ القِرَان فِي الحُكْمِ.
القُوْلُ الثَّانِي: أَنَّ
دَلَالَةَ الاقْتِرَانِ حُجَّةٌ تَثْبُتُ بِهَا الأَحْكَامُ, وَهُوَ قَوْلٌ
لِبَعْضِ الحَنَفِيَّةِ([14])، وَبَعْضِ
المـَالِكِيَّةِ([15]), وَبَعْضِ
الشَّافِعِيَّةِ([16]), وَبَعْضِ
الحَنَابِلَةِ([17]).
وَلْيُعْلَمْ
أنَّ مَحَلَ النِّزَاعِ السَّابِقِ: مَا إِذَا اقْتَرَنَ لَفْظَانِ أوْ أَكْثَرُ؛
وَلَا مُشَارَكَةَ بَيْنَهُمْ فِي العِلَّةِ، وَلَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ
بَيْنَهُمَا([18])؛ هَلْ
يَسْتَوِيانِ فِي جَمْيعِ أَحْكَامِهِمَا أَوْ لَا؟
وَإتْمَامًا لِلفَائِدِةِ؛ فَإِنَّ "دَلَالَةَ الاقْتِرَانِ" لَا تُرَدُّ بِإطْلَاقٍ,
وَلَا تُقْبَلُ بِإطْلَاقٍ, وَإِنَّما هِيَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: قَوْيَّةٍ, وَضَعِيفَةٍ,
وَيَتْسَاوِي فِيْهَا الأَمْرَانِ:
أمَّا كَوْنُهَا قَوِيَّةً: فَذَلِكَ
إِذَا جَمَعَ الْمُقْتَرِنَيْنِ لَفْظٌ وَاحِدٌ يَشْتَرِكَانِ فِي إِطْلَاقِهِ وَيَفْتَرِقَانِ
فَي تَفْصِيلِهِ, وَمِثَالُهُ: حَدِيثُ أَبِي
هُرَيْرَةَ t قَالَ:
سَمِعْتُ النَّبِيَّ r يَقُولُ: (( الفِطْرَةُ
خَمْسٌ: الخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ
الأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الآبَاطِ ))([19])، فَلَفْظَةُ "الفِطْرَةِ" لَفْظَةٌ
وَاحِدَةٌ اسْتُعْمِلَتْ فِي هَذِهِ الأَشْيَاءِ الخَمْسَةِ، فَلَوْ افْتَرَقَتْ فِي
الحُكْمِ -أَعْنِي أَنَّ تُسْتَعْمَلَ فِي بَعْضِ هَذِهِ الأَشْيَاءِ لإِفَادِةِ
الوُجُوبِ، وَفِي بَعْضِهَا لإفَادَةِ النَّدْبِ- لَزِمَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ
الوَاحِدِ فِي مَعْنَيينِ مُخْتَلَفِينِ.
وَتَكُونُ دَلَالَةُ
الاقْتِرَانِ ضَعِيفَةً: إِذَا اسْتَقَلَّتْ الْجُمَلُ فِي الكَلَامِ
بِنَفْسِهَا, وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهَا
اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الوَاحِدِ فِي مَعْنَيَيْنِ, كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ: ((لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ،
وَلَا يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ ))([20])، حَيْثُ اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضِ الفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ
اغْتِسَالِ الجُنُبِ فِي المـَــــاءِ يُفْسِدُهُ، لِكَوْنِهِ مُقْرُونًا بِالنَّهْيِّ
عَنْ البَوْلِ فِيْهِ.
وَتَكُونُ دَلَالَةُ
الاقْتَرِانِ مُتَوَسِّطَةً بِيْنَهُمَا: إِذَا كَانَ
العَطْفُ ظَاهِرًا فِي التَّسْوِيَةِ, وَقَصْدُ المـُـتَكَلِّمِ ظَاهِرًا فِي الفَرْقِ,
فَيَتَعَارَضُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَظَاهِرُ القَصْدِ, فَإِنْ غَلَبَ أَحَدُهُمَا؛
اعْتُبِرَ, وَإِلَّا؛ رُجِعَ إِلَى التَّرْجِيحِ([21])،
-وَاللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَجَلُّ وَأَعْلَمُ-.
-----------------------------------------------
ثانيا: تَأثِيرُ
القَاعِدَةِ فِي الفروع الفقهية.
وَفِيهِ مَسْأَلَةٌ
وَاحِدَةٌ، وَهِي:
المُرَادُ بِالصَّلَاةِ الوُسْطَى.
تَقَدَّمَ
الخِلَافُ فِي بَيَانِ المـُــرَادِ بِالصَّلَاةِ الوُسْطَى([22])،
وَذَكَرْتُ أَنَّ فِي المـَسْأَلَةِ قَوْلَينِ لِأَهْلِ العِلْمِ:
القَوْلُ
الأَوَّلُ:
أَنَّهَا صَلَاةُ العَصْرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الحَنَفِيَّةِ([23])
وَالحَنَابِلَةِ([24]).
القَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا صَلَاةُ الصُّبْحِ،
وَهُوَ
مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ([25]) وَالمـَــالِكِيَّةِ([26]).
وَوَجْهُ تَأْثِيرِ قَاعِدَةِ الاقْتِرَانِ
هَهُنَا:
أَنَّ المـُرَادَ بِالصَّلَاةِ الوُسْطَى هِيَ الصُّبْحُ، إِذْ اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ القَوْلِ الثَّانِي وَهُمْ المـَـالِكِيَّةِ([27]) وَالشَّافِعِيَّةِ([28]) بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ الوَارِدَةِ فِي الحَدِيثِ الَّذِي
ذَكَرَهُ المجْدُ ابْنُ تَيْمِيَةَ :، وَهُوَ: (( إنَّ
رَسُولَ الله r كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَجِيرِ وَلَا يَكُونُ وَرَاءَهُ إلَّا
الصَّفُّ وَالصَّفَّانِ، وَالنَّاسُ فِي قَائِلَتِهِمْ وَفِي تِجَارَتِهِمْ
فَأَنْزَلَ الله: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱠ [البقرة:
238] )) ([29]).
قَالَ القَاضِي
عَبْدُ الوَهْابِ([30])
::
( الصَّلَاةُ الوُسْطَى صَلَاةُ الفَجْرِ، ... لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱠ [البقرة: 238] وَسُنَّةُ القُنُوتُ عِنْدَنَا
فِي الصُّبْحِ، فَعُلِمَ أَنَّها هِيَ المـــُـــرَادَةُ )([31]).
وَقَالَ أَبُو
المـَحَاسِنُ الرَّوْيَانِيُّ([32]) :: (
وَرُوَيَ عَنْ عَائِشَةَ وَزِيْدٍ أَنَّهُمَا قَالَا:
هِيَ الظُّهْرُ، وَرْوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَ قَبِيْصَةُ
بنُ ذُؤَيبٍ: هِيَ المغْرِبُ، وَهَذَا كُلُّهُ غَلَطٌ لِقَوْلِهِ تَعَالى: ﱡﭐ ﱆ ﱇ
ﱈ ﱠ [البقرة:
238]، فَقَرَنَها بِالقُنُوتِ، وَلَا قُنُوتَ إِلَّا فِي صَلَاةِ
الصُّبْحِ )([33])، -واللهُ تُبُارَكَ وَتَعَالَى أَجَلُّ وَاعْلَمُ-.
ioooop
([1]) اخْتَلَفَ الأُصُولِيُّونَ فِي مَوْضِعِ
إِيَرَادِ هَذِهِ القَاعِدَةِ، فَذَكَرَهَا أبُو يعلى في العدة في مباحث القياس (4/1420),
والإسنويُّ في التمهيد في مباحث الأمر (222), وابنُ مفلح في أصوله في باب العام والخاص (2/856)، وابنُ السبكي في جمع الجوامع في مبحث المخصِّصات (315),
والزركشي في البحر في باب الأدلة المختلف فيها (6/99).
([8]) وَهِيَ:
أنْ يَدْخُلَ حَرْفُ الوَاوِ بِيْنَ جُمْلَتِينِ تَامَّتَينِ، كُلٌّ مِنْهُمَا مُبْتَدَأٌ
وَخَبَرٌ، أَوْ فِعْلٌ وَفَاعِلٌ، بِلَفْظٍ يَقْتَضِي الوُجُوبَ فِي الجَمِيعِ، أوْ
العُمُومِ فِي الجَمِيعِ، وَلَا مُشَارِكَةَ بَيْنَهُمَا فِي العِلِّةِ، وَلَمْ يِدُلَّ
دَلِيلٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ بِيْنَهُمَا. انظر: ميزان الأصول (415), والبحر
المحيط (6/99).
([20]) بِهَذَا اللَّفْظِ أخْرَجَهُ أبو داود
في سننه في "كتاب الطهارة"، "باب البول في الماء الراكد" (1/51)، برقم (69)، وقد صححه
الألباني في صحيح الجامع الصغير وزياداته (1/1259). والحديث عند البخاري بلفظ: (( لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ
الَّذِي لاَ يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ ))
في "كِتَاب الوُضُوءِ"،
"بَاب البَوْلِ فِي المَاءِ الدَّائِمِ"
(1/57) برقم (239).
([30]) هُوَ
القَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ: عَبْدُ الوَهَّابِ
بنِ عَلَيٍّ بنِ نَصَرٍ البَغْدَادِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ
المـَذْهَبِ المـَـالِكِيِّ، كَانَ فَقِيْهًا مُتَأَدِّبًا
شَاعِرًا، وِلِدَ سَنَةَ 363 ه، وَتُوُفِيَ سَنَةَ 421 ه، صَنَّفَ:
المَعُونَةَ بِمَذْهَبِ عَالِمِ الـمَدِيْنَةِ،
وَالتَّلْقِينَ.
انظر: ترتيب المدارك (7/219)، وشجرة النور الزكية (1/154).
([32]) هُوَ:
عَبْدُ الوَاحِدِ بنُ إسْمَاعِيلَ بنِ أَحْمَدَ،
أَبُو المحَاسِنِ الرُّوْيَانِيُّ، بَرَعَ فِي المـَذْهَبِ حَتَّى قَالَ: لَوْ احْتَرَقُتْ كُتُبُ الشَّافِعِيِّ لِأَمْلَيْتُها
مِنْ حِفْظِي، وَلِدَ سَنَةَ 415 ه، وَقَتَلَتْهُ البَاطِنِيَّةُ سَنَةَ 502 ه،
صنَّفَ: "البَّحْرِ"، وَ"الكَافِي". انظر: طبقات الشافعية
لابن السبكي (7/193)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبه (1/287).