أوَّلًا: التَّعْرِيفُ
بِالقَاعِدَةِ:
القِرَاءَةُ
فِي اللُّغَةِ: بِمَعْنَى "التِّلَاوَةِ"([1])،
وَفِي الاصْطِلَاحِ هِيَ: "عِلْمٌ بِكَيْفَيَّةِ أدَاءِ
كَلِمَاتِ القُرْآنِ، واخْتِلَافِهَا، مَعْزُوًّا لِنَاقِلِهِ"([2]).
والمُتَواتِرُ مِنَ
القِرَاءَةِ: "كُلُّ قِرَاءِةٍ [1] سَاعَدَهَا خَطُّ المـُصْحَفِ، [2] مَعَ
صِحَةِ النَّقْلِ فِيهَا، [3] وَمَجِيئِها عَلَى الفَصِيحِ مِنْ لُغَةِ العَربِ"([6])، وَمَتى
اخْتَلَ رُكْنٌ مِنْ هَذِهِ الأرْكَانِ الثَّلَاثَةِ؛ أطْلِقّ عَلَيْهَا ضَعِيفَةٌ
أوْ شَاذَةٌ أوْ بَاطِلَةٌ([7]).
المَعْنَى الإجْمَالِيُّ
لِلقَاعِدَةِ:
مَتَى مَا فَقَدَتِ
القَرَاءَةُ الشَّاذَةُ رُكْنًا مِنْ أرْكَانِ التَّوَاتُرِ؛ هَلْ يَصِحُّ أنَّ تَكُونَ
حُجَّةً وَدَلِيلًا مُؤثِرًا فِي الأحْكَامِ أوْ لَا ؟
ثَانِيًا: تَحْرِيرُ
مَحَلِ النِّزَاعِ فِي القَاعِدَةِ:
مَحَلُ النِّزَاعِ بَيْنَ
أهْلِ العِلْمِ فِيمَا عَدَا القِرَاءَةِ بِالقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ فِي الصَّلَاةَ؛
إذْ الاتِّفَاقُ عَلَى مَنْعِ القِرَاءَةِ بِها فِي الصَّلَاةِ وَعَدَمِ صِحَّةِ
الصَّلَاةِ بِهَا([8])،
وَقَدْ كَانَ نِزَاعُهُمْ عَلَى قَوْلَينِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّ
القِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ حُجَّةٌ، وَتَثْبُتُ بِهَا الأحْكَامِ، وَهُوَ قَوْلُ أبِي
حَنِيفَةَ وَمَذْهَبُ أصْحَابِهِ([9])،
وَهُوَ مَذْهَبُ أحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ المـَـشْهُورَةِ عَنْهُ([10])، وَجُمْهُورِ أصْحَابِهِ([11])،
وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَيْهِ أكْثَرُ أصْحَابِهِ([12]).
القَوْلُ الثَّانِي: أنَّها
لَيْسَتْ
بِحُجَّةٍ،
وَلَا تَثْبُتُ بِهَا الأحْكَامُ، وَهُوَ المـَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مِالِكٍ، واخْتَارَهُ
أصْحَابُهُ([13])، وَنُسِبَ
إلى الشَّافِعِيِّ([14])، واخْتَارَهُ
بَعْضُ أصْحَابِهِ(7)، وَرِوَايَةٌ عَنِ الإمَامِ أحْمَدَ([15]).
ثانيا: تَأثِيرُ القَاعِدَةِ فِي الفروع الفقهية.
وَفِيهِ مَسْأَلَةٌ
وَاحِدَةٌ، وَهِي:
المُرَادُ بِالصَّلَاةِ الوُسْطَى
اتَّفَقَ
العُلَمَاءُ عَلَى أنَّ الصَّلَاةَ الوُسْطَى الوَارِدَةَ فِي قَوْلِهِ I: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱠ [البقرة: 238] هِيَ آكَدُ
الصَّلَواتِ([16])، واخْتَلَفُوا فِي المُرَادِ بِهَا عَلَى
أقَوْالٍ([17])،
أشْهَرُهَا قَوْلانِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّها
صَلَاةُ العَصْرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أكْثَرِ العُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ y([18])، وَمَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ وَأصْحَابِهِ([19])،
وَالإمِامِ أحْمَدَ وَجُمْهُورِ أصْحَابِهِ([20]).
القَوْلُ الثَّانِي: أنَّها
الصُّبْحَ، وَهُوَ: مَذْهَبُ الإمَامِ الشَّافِعِيِّ
وَجُمْهُورِ
أصْحَابِهِ([21])، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأصْحَابُهُ([22]).
وَجْهُ تَأثِيرِ القَاعِدَةِ فِي
المَسْأَلِةِ:
ذَكَرَ
المجْدُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : أحَادِيثَ بَلَغَتْ
تَسْعَةَ أحَادِيثَ، مِنْ ضِمْنِها حَدِيثُ أَبِي يَونُسَ([23]) مَوْلى عَائِشَةَ tا أنَّها أَمْلَتْ عَلَيْهِ: (( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى،
وَصَلَاةِ الْعَصْرِ ))، ثُمَّ قَالَتْ: (( سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ الله r ))([24]).
ويَظْهَرُ
وَجْهُ تَأثِيرِ القَاعِدَةِ مِنْ خِلَالِ القِرَاءَةِ الشَّاذَةِ فِي الحَدِيثِ،
حَيثُ اسْتَدَلَّ المـَالِكِيَّةُ([25])
وَالشَّافِعِيَّةُ([26]) بِقِرَاءَةِ
عَائِشَةَ tا الشَّاذَةِ
عَلَى أنَّ الصَّلَاةَ الوُسْطَى هِيَ: غَيْرُ صَلَاةِ العَصْرِ، ثُمَّ رَجَّحُوا بِقَوْلِ
ابْنِ عَبَّاسٍ yا أنَّ
الصَّلَاةَ الوُسْطَى هِي: صَلَاةُ الصُّبْحِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ : : ( فَحَدِيثُ عَائِشَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الصَّلَاةَ الْوُسْطَى، لَيْسَتْ صَلَاةَ الْعَصْرِ، ... وَاخْتَلَفَ بَعْضُ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ r، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَرُوِيَ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا الصُّبْحُ وَإِلَى هَذَا نَذْهَبُ )([27]) ([28]).
وَقَالَ البَاجِيُّ([29]):
( الأَظْهَرُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ
الوُسْطَى غَيْرُ صَلَاةِ العَصْرِ، ... فَاَلَّذِي يَقْتَضِي مَا أَمْلَتْهُ عَائِشَةُ
أَنَّهَا غَيْرُ صَلَاةِ العَصْرِ لِأَنَّهَا عَطَفَتْ صَلَاةَ العَصْرِ عَلَى
الصَّلَاةِ الوُسْطَى وَلَا يُعْطَفُ الشَّيْءُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ
الزِّيَادَةِ تَعْيِينٌ لِلصَّلَاةِ الوُسْطَى
)([30]).
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدُ البَرِّ : أنَّ
ابْنَ عَبَّاسٍ yا كَانَ يَقُولُ: ( الصَّلَاةُ
الوُسْطَى صَلَاةُ الصُّبْحِ تُصَلَّى
فِي سَوَادٍ مِنَ اللَّيْلِ وَبَيَاضٍ مِنَ النَّهَارِ وَهِيَ أكْثَرُ الصَّلَواتِ
تَفُوتُ النَّاس )، ثُمَّ قَالَ :: ( الرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
ذَلِكَ صَحِيحَةٌ وَيَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِهِ قَوْلُ اللهِ U: ﱡﭐ ﱤ ﱥﱦ ﱧ
ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱠ [الإسراء: 78] فَخُصَّتْ بِهَذَا النَّصِّ مَعَ أَنَّهَا
مُنْفَرِدَةٌ بِوَقْتِهَا لَا يُشَارِكُهَا غَيْرُهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ فَدَلَّ
ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا الْوُسْطَى وَاللهُ أَعْلَمُ )([31]).
وَيُمْكِنُ
الجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يَلِي:
أوَّلًا: قَوْلُهمْ "العَطْفُ يَقْتَضِي
المـُغَايَرَةَ"؛ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ، إذْ أنَّ الوَاوَ تَدْخُلُ
لِلاخْتِصَاصِ وَإنْ عُطِفَ بِهَا، وَالْعَرَبُ تَذْكُرُ الشَّيْءَ جُمْلَةً ثُمَّ
تَخُصُّ مِنَ الْجُمْلَةِ شَيْئًا تَفْصِيلًا لَهُ وَتَنْبِيهًا عَلَى مَا فِيهِ
مِنَ الْفَضِيلَةِ وَهُوَ من الْجُمْلَة، وَمِنْهُ قَوْلُهُ I: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍﱠ [الأحزاب: 7] فَكَرَّرَ أُولِي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ -عَلَيْهِمْ
السَّلَامِ- لِلتَّفْضِيلِ عَلَى النَّبِيِّين وَلَمْ يَخْرُجوا
مِنْهُمْ([32]).
أمَّا مَا رُوِيَ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ yا أنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (الصَّلَاةُ
الوُسْطَى صَلَاةُ الصُّبْحِ) فَهُوَ قَوْلُ صَحَابِيٍّ، وَلَا
يَقْوَى عَلَى مُعَارَضَةِ أقْوَالِ رَسُولِ اللهِ r
الصَّرِيحَةِ الصَّحِيحَةِ، مِنْهَا: مَا
جَاءَ عِنْدَ البُخَارِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ عَلِيٍّ t أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ: يَوْمَ الْأَحْزَابِ: (( مَلَأَ
اللهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ
الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ ))([33])، وعند مُسْلمٍ: (( شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ
الْعَصْرِ ))([34]). -واللهُ
I أعْلَمُ-.
([17])
ذَكَرَ الحافظُ ابنُ حجر وغيرُه فيها عشرين قولا، مُلَخَّصُها:
صلاة العصر، المغرب، العشاء، الفجر، الظهر، جميعها، واحدة غير معينة، التوقف،
الجمعة، الظهر في الأيام، والجمعة في غيرها، الصبح أو العشاء أو العصر، الصبح أو
العصر على التردد، وهو غير الذي قبله، صلاة
الجماعة، صلاة الخوف، صلاة عيد النحر، صلاة عيد الفطر، الوتر، صلاة الضحى، صلاة
الليل. انظر: فتح الباري (9/691-693)، وشرح معاني الأثار
(3/292).
([28])
وَقَدْ عُلِمَ أنَّ فِي تَحْقِيقِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ :
فِي "القِرَاءَةِ الشَّاذَةِ" خِلَافٌ، وَلَعَلَّ هَذِه ِالرِّوَايِةِ عَنْهُ
:
تُؤيِّدُ مَا ذَهَبَ إليْهِ ابْنُ السُّبْكِيِّ وَالإسْنَويُّ مِنْ أنَّها حُجَّةٌ
عِنْدَهُ، -واللهُ I
أعْلَمُ-. انظر: البحر المحيط للزركشي (1/475-478) مع ما تقدم من
كتب أصول الشافعية.
([29]) هُوَ القَاضِي أَبُو الوَلِيْدِ: سُلَيْمَانُ
بنُ خَلَفِ بنِ سَعْدِ التُّجِيْبِيُّ البَاجِيُّ الأَنْدَلُسِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ 403 ه، وَتُوفِّيَ سَنَةَ 474 ه، صَنَّفَ: إِحكَامَ
الْفُصُولِ فِي أَحْكَامِ الأُصُوْلِ وَالإِشَارَةَ فِي أُصُوْل الفِقْه. انظر:
الديباج المذهب (1/377)، وسير أعلام النبلاء (18/535).