تعديل

الأربعاء، 16 أكتوبر 2019

صوارف الأمر عن الوجوب


قاعدة: من صوارف الأمر عن الوجوب؛ إضافته إلى مشيئة المكلف ([1]).

أوَّلًا: التَّعْرِيفُ بِالقَاعِدَةِ:
صَوَارِفُ: جَمْعُ صَارِفٍ، مُشْتَقٌّ مِنْ الصَّرْفِ؛ وَالصَّرْفُ فِي اللُّغَةِ: "التَّحَوُلُ وَالقَلْبُ"([2])، وَبِمَعْنًى آخَرَ: "رَدُّ الشَّيْءِ عَنْ وَجْهِهِ"، صَرَفْتُ الْقَوْمَ صَرْفًا وَانْصَرَفُوا، إِذَا رَجَعْتَهُمْ فَرَجَعُوا، وَفِي التَّنْزِيل: ﱡﭐ ﲑ ﲒ  [التوبة: 127]، أَيْ: رَجَعُوا عَنِ   الْمَكَانِ الَّذِي استمعُوا فِيهِ([3]).
وَمُرَادُنَا بِالصَّارِفِ: العُدُوُلُ بِصِيْغَةِ الأَمْرِ عَنْ دَلَالَتِهَا الظَّاهِرَةِ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ.
وَالإِضَافَةُ فِي اللُّغَةِ: "الإِسْنَادُيُقَالُ: أَضَافَ إِليْهِ أَمْراً: أَيْ: أَسْنَدَهُ([4]).
وَالمَشِيْئَةُ: مَصْدَرُ شَاءَ يَشَاءُ مَشِيْئَةً، وَمَعْنَاهَا اللُّغَويُّ: "الإِرَادَةُ"([5])، يُقَالَ: شِئْتُ الشَّيْءَ، أَشَاؤُهُ، شَيْئًا، وَمَشِيْئَةً، وَمَشَاءَةً، وَمَشَايَةً: أَرَدْتُهُ([6])، وَالمُرَادُ بِهَا هُهَنَا: إِرَادَةُ المـُكَلَّفِ وَاخْتِيَارُهُ بِأَنْ يِفْعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، أَوْ أَنْ يِتْرَكَ.
المَعْنَى الإجْمَالِيُّ لِلقَاعِدَةِ:
الشَّارِعُ الحَكِيمُ؛ إِذَا أَمَرَ بِأَمْرٍ مَا، ثُمَّ عَلَّقَهُ وَأسْنَدَهُ إِلَى إِرَادَةِ المـُكَلَّفِ وَاخْتِيَارِهِ، إِنْ شَاءَ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ؛ فَإِنَّ الأَمْرَ يَتَحَوَّلُ وَيَنْقَلِبُ عَنْ أَصْلِهِ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى الوُجُوبِ إِلى دَلَالَةٍ أُخْرَى، إِمَّا النَّدْبُ أوْ الإِبَاحَةُ.
ثَانِيًا: أقْوَالُ العُلَمَاءِ فِي القَاعِدَةِ:
مَرَّ مَعَنَا قَرْيبًا؛ أَنَّ: "الأَمْرَ المـُـطْلَقَ لَلوُجُوبِ" عِنْدَ الجُمْهُورِ([7])، وَأَنَّ مِنَ المـُـقَرَّرِ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الأَمْرَ إِذَا كَانَ مُقْتَرِنًا بِقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى مُرَادٍ؛ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ القَرِينَةُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّ مَا كَانَ مَقْرُونًا بِقَرِينَةٍ صَارِفَةٍ؛ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ القَرِينَةُ([8]).
وَ"رَدُّ فِعْلِ الأَمْرِ إِلَى مَشِيْئَةِ المُكَلَّفِ هُوَ: "تَخْيِيرُهُ بَيْنَ الفِعْلِ وَالتَّرْكِ"، وَلَا شَكَّ أنَّ هَذَا التَّخْيِيرَ مِنَ الشَّارِعِ لِلمُكَلَّفِ مِنَ القَرِائِنِ الصَّارِفَةِ لِلأَمْرِ عَنِ الوُجُوبِ، وَهُوَ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ الأُصُولِيِّينَ وَأَهْلِ اللُّغَةِ.
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ :: ( وَأيْضًا؛ فَإِنَّ لَفْظَةَ "أَوْ" وَلَفْظَةَ "إِنْ شِئْتَ" مَفْهُومٌ مِنْهُمَا التَّخْيِيرَ بَلَا خِلَافٍ مِنَّا وَمِنْهُمْ وَمِنْ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ، ... )([9]).
وَلَكِنْ؛ هَلْ يُصْرَفُ إِلَى النَّدْبِ أَوْ الإِبَاحَةِ؟
ذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ : أَنَّهُ يُصْرَفُ إِلى النَّدْبِ وَنَفَى الخِلَافَ فِي ذَلِكَ، حَيْثُ يَقُولُ:     ( القِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ لِلمَرْءِ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، وَإِنْ شِئْتَ أَلَّا تَفْعَلَهُ أَصْلًا، وَهَذَا النَّوعُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا أَصْلًا، وَلَا يَكُونُ إِلَّا تَطَوُّعًا، لِأنْ كُلَّ شَيْءٍ أُبِيْحَ لِلمَرْءِ تَرْكُهُ جُمْلَةً أَوْ فِعْلُهُ؛ فَهُوَ تَطَوُّعٌ بِلَا خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ )(3)، وَهَذَا التَّأصِيلُ مِنِ ابْنِ حَزْمٍ : يُوَافِقُ تَطْبِيقَهُ فِي مَسْأَلَتِنَا الآتِي ذُكْرُهَا.
إِلَّا أَنَّ ابْنَ عَقِيلٍ :  جَعَلَ مَعْنَى الإِبَاحَةِ: تَعْلَيقُ الفِعْلِ بِمَشِيْئَةِ المـَـأْذُونِ لَهُ فِيْهِ، حَيْثُ قَالَ : ( حَقِيْقَةُ الإباحةِ؛ تَعْلِيقُ المـُبَاحِ بِمَشِيْئَةِ المـَـأْذُونِ لَهُ فِي الفِعْلِ، وَبِمَعْنَى القَوْلِ لَهُ: افْعَلْهُ إِنْ شِئْتَ )([10])، فَكَأنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الفِعْلَ المـُـعَلَّقَ بِمَشِيْئَةِ المـُـكَلَّفِ مُبَاحٌ لَا مَنْدُوبٌ.
وَفَصَّلَ القَوْلَ فِي ذَلِكَ الزَّرْكَشِيُّ : حَيْثُ يِقُولُ: ( يُطْلَقُ الْمُبَاحُ عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ؛ الْأَوَّلُ -وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا-: مَا صَرَّحَ فِيهِ الشَّرْعُ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ )([11])، وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ : أَنَّهُ مَتَى مَا عُلِمَ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ عَدَمُ التَّسْوِيَةِ بِيْنَهُمَا، وَأَنَّ الفِعْلَ أَفْضَلُ مِنَ التَّرْكِ؛ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى النَّدْبِ.
وَأَصَّلَ بِعْضُ البَاحِثِينَ أَصْلًا جَيَّدًا فِي رَدِّ الأَمْرِ مِنَ الوُجُوبِ إِلَى النَّدْبِ أَوْ الإِبَاحَةِ بِقَرِينَةِ الرَّدِّ إِلَى مَشِيْئَةِ المـُكَلَّفِ، فَقَالَ: ( لَا بُدَّ مِنْ ضَمِّ قَرِينَةٍ أُخْرَى إِلَيْها -يَعْنَي: إِلَى قَرِينَةِ المـَشِيْئَةِ-، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الأَوَامِرَ المـُتَعَلِّقَةَ بِالعِبَادَاتِ؛ الأَصْلُ فِيهَا النَّدْبُ، وَمَا عَدَاهَا؛ فَالأَصْلُ فِيْهَا الإِبَاحَةُ، فَهَذِهِ القَرِينَةُ إِذَا انْضَمَّتْ مَعَ تَعْلِيقِ الأَمْرِ عَلَى المـَــشِيْئَةِ؛ نَسْتَطِيعُ مِنْ خِلَالِهَا تَحْدِيدُ دَلَالَةِ هَذَا الأُسْلُوبِ، واللهُ تَعَالَى أعْلَمُ ) ([12]).

------------------------------------------------

تَأثِيرُ القَاعِدَةِ فِي الفروع الفقهية.
وَفِيْهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ:
حُكْمُ الرَّكْعَتَينِ قَبْلَ صَلَاةِ المَغْرِبِ.
تَقَدَّمَ بَحْثُ هَذِهِ الـمَسْأَلَةِ فِي قَاعِدَةِ "السُّنَّةِ التَّقْرِيرِيَّةِ حُجَّةٌ"([13])، وَذَكَرْنَا أَنَّ فِي  المـَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ:
الأَوَّلُ: أَنَّهُمَا جَائِزَتَانِ وَلَيْسَتَا بِسُنَّةٍ، وَهُوَ المـَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ([14])، والحَنَابِلَةِ([15]).
الثَّانِي: أَنَّهُمَا مُسْتَحَبَّتَانِ، وَنُسِبَ إِلى بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ([16])، وَقَالَ بِهِ ابْنُ حَزْمٍ([17])، وَاسْتَدَلُّوا بِقُوْلِهِ r: (( صَلُّوا قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ ))، قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: (( لِمَنْ شَاءَ ))([18]).
الثَّالِثُ: أَنَّهُمَا مَكْرُوهَتانِ، ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ([19])، وَمَالِكٌ([20]).
وَوَجْهُ ارْتِبَاطِ المَسْأَلَةِ بِقَاعِدَتِنَا؛ ظَاهِرٌ فِي اسْتِدْلَالِ أصْحَابِ القَوْلِ الثَّانِي، القَائِلِينَ بِالاسْتِحْبَابِ، فَالأَمْرُ الوَارِدُ فِي الحَدِيثِ مَصْرُوفٌ عَنِ الوُجُوبِ إِلَى الاسْتِحْبَابِ بِقَرِينَةِ "الرَّدِّ إِلى مَشِيْئَةِ المُكَلَّفِ"، وِفَيْهِ يَقْولُ ابْنُ حَجَرٍ :: ( قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ "لِمَنْ شَاءَ" فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ، فَلِذَلِكَ أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَكَانَ ذَلِكَ صَارِفًا لِلْحَمْلِ عَلَى الْوُجُوبِ )([21]) -واللهُ I أعْلَمُ-.
--------------------------------


([1]) لَمْ يِنُصَّ عَلَى هَذِهِ القَاعِدَةِ أَحَدٌ مِنَ الأُصُولِيِّينَ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ، إِلَّا أَنَّها مُسْتَفَادَةٌ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ خِلَالِ صَرْفِهِمْ لِبَعْضِ الأَوَامِرِ بِقَرَيِنَةِ تَخْيِيِرِ الشَّارِعِ لِلمُكَلَّفِ بِأَنْ يَفْعَلَ أَوْ أَنْ يَتْرُكَ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ كُتُبِ شُرُوحِ الأَحَادِيثِ وَكُتُبِ الفِقْهِ، وَكَلَامِ بَعْضِ الأُصُولِيِّينَ فِي مَبْحَثِ "الإِبَاحَةِ" فِي الأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ. انظر: فتح الباري لابن حجر (17/274)، والبحر المحيط للزركشي (1/276).
([2]) انظر: المعجم الوسيط (1/513)، وتاج العروس (24/21).
([3]) انظر: مقاييس اللغة (3/342)، واللسان (9/189)، وتاج العروس (24/21).
([4]) انظر: تهذيب اللغة (12/52)، وتاج العروس (24/62).
([5]) انظر: المعجم الوسيط (1/502)، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير (2/517).
([6]) انظر: الصحاح (1/59)، واللسان (1/103)، وتاج العروس (2/282).
([7]) انظر: المبحث التاسع عشر من هذا الفصل (367-369).
([8]) انظر: شرح مختصر الروضة (2/365)، وتقريب الوصول (113).
([9]) انظر: الإحكام لابن حزم (3/6).
([10]) انظر: الواضح في أصول الفقه (2/489).
([11]) البحر المحيط (1/276).
([12]) الأساليب الشرعية الدالة على الأحكام التكليفية للدكتور علي المطرودي (284).
([13]) انظر: المبحث العاشر من هذا الفصل (307).
([14]) انظر: المجموع (3/347)، والعدة في شرح العمدة (1/362).
([15]) انظر: المغني لابن قدامة (2/546)، والانصاف للمرداوي (3/95).
([16]) انظر: المجموع للنووي (3/347)، والعدة في شرح العمدة (1/362).
([17]) انظر: المحلى بالآثار (3/331-334).
([18]) تقدم تخريجه (308).
([19]) انظر: المبسوط (1/331)، والبناية (2/71).
([20]) انظر: البيان والتحصيل (17/374)، والتلقين (1/716).
([21]) فتح الباري (17/274).