تعديل

الخميس، 24 أكتوبر 2019

ارسال مالك للحديث

         قال الشيخ المحدث مفلح الرشيدي - رحمه الله- : ( ومن المعلوم لدى المحدثين أن الإمام مالكاً رحمه الله كان يرسل الحديث لأدنى شك منه في اتصاله، ومن تأمل الموطأ وكلام ابن عبد البر عليه في التمهيد تبين له ذلك، وهكذا كان شعبة وابن المبارك وابن عيينة وابن سيرين إذا شك أحدهم في رفع الحديث أو في اتصاله رواه موقوفاً أو مرسلاً، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، والله أعلم ). انظر: "الجزء الأول من حديث سفيان بن عيينة رواية علي بن حرب (198)

خطورة توطين المنكر وتطبيعه

·    الْحَمْدُ لِلَّهِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ، الْبَرِّ الرَّحِيمِ؛ هَدَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَخَذَلَ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ فَهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ، وَفِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ، نَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا وَاجْتَبَانَا، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا وَهَبَنَا وَأَعْطَانَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ أَنَارَ طَرِيقَ الْحَقِّ لِلسَّائِرِينَ، فَسَلَكَهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ، وَعَمِيَ عَنْهُ أَهْلُ الْجَهْلِ وَالْجُحُودِ فَكَانُوا مُعْرِضِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْبَشِيرُ النَّذِيرُ، وَالسِّرَاجُ الْمُنِيرُ، ابْتُلِيَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمَ ابْتِلَاءٍ فَمَا وَهَنَ لِمَا أَصَابَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا زَادَهُ إِلَّا إِيمَانًا وَيَقِينًا وَتَسْلِيمًا، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
·    أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَقِيمُوا لَهُ دِينَكُمْ، وَأَخْلِصُوا لَهُ أَعْمَالَكُمْ، وَأَسْلِمُوا لَهُ وُجُوهَكُمْ؛ فَلَا نَجَاةَ مِنَ الْعَذَابِ، وَلَا فَوْزَ بِالْجِنَانِ إِلَّا بِالِانْقِيَادِ التَّامِّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالِاسْتِسْلَامِ لِشَرْعِهِ، وَالذَّوْدِ عَنْ دِينِهِ، وَتَعْظِيمِ حُرُمَاتِهِ ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الْأَنْعَامِ: 14- 15].
·    أَيُّهَا النَّاسُ: مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُولَدَ وَيَنْشَأَ فِي بِيئَةٍ نَقِيَّةٍ مِنَ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ وَالْفَوَاحِشِ، فَيَتَرَبَّى تَرْبِيَةً سَوِيَّةً، وَيَعِيشَ عِيشَةً هَنِيئَةً. لَا يَتَلَطَّخُ بِشِرْكٍ يُخَلَّدُ بِسَبَبِهِ فِي النَّارِ، وَلَا يَتَلَوَّثُ بِبِدْعَةٍ تَحْرِفُهُ عَنِ السُّنُّةِ، وَلَا يَأْلَفُ فَوَاحِشَ تَفْتِكُ بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَتُرْدِيهِ فِي آخِرَتِهِ.
·    وَكَمْ فِي بِلَادِ الْكُفْرِ وَالْفُجُورِ مِنْ أَقْوَامٍ لَمَّا ذَاقُوا حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، وَجَرَّبُوا الطُّهْرَ وَالنَّقَاءَ؛ لَمْ يَبْغُوا عَنْ إِيمَانِهِمْ حِوَلًا، وَجَعَلُوا دُنْيَاهُمْ فِدَاءً لِدِينِهِمْ.
·    وَمِنْ أَعْظَمِ الْخُسْرَانِ، وَأَشَدِّ الْخِذْلَانِ أَنْ يَعِيشَ الْعَبْدُ فِي أَرْضٍ طَيِّبَةٍ نَقِيَّةٍ فَيُفَارِقَ طِيبَهَا إِلَى خَبَثِ غَيْرِهَا، وَيَتَلَوَّثَ بِأَوْضَارٍ يَسْتَجْلِبُهَا مِنْ مَزَابِلِ الْأَفْكَارِ وَالدِّيَانَاتِ، وَرَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 86].  
·    وَلَا شَيْءَ أَعْسَرَ عَلَى دُعَاةِ التَّغْيِيرِ مِنْ تَغْيِيرِ مَا أَلِفَهُ النَّاسُ وَاعْتَادُوهُ، سَوَاءٌ كَانَ تَغْيِيرَ حَقٍّ إِلَى بَاطِلٍ، وَحَسَنٍ إِلَى قَبِيحٍ، أَوْ كَانَ الْعَكْسَ؛ لِأَنَّ إِلْفَ النَّاسِ لِلشَّيْءِ وَاعْتِيَادَهُمْ عَلَيْهِ يَكُونُ جُزْءًا مِنْ حَيَاتِهِمْ؛ وَلِذَا كَانَ فِي أَمْثَالِ الْعَرَبِ: «الطَّبْعُ يَغْلِبُ التَّطَبُّعَ»، وَ «مَنْ شَبَّ عَلَى شَيْءٍ شَابَ عَلَيْهِ».
·    وَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي مَنَعَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمُشْرِكِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَمُفَارَقَةِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُوبِقَاتِ؛ إِنَّمَا كَانَ السَّيْرَ عَلَى جَادَّةِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَعَجْزَهُمْ عَنْ مُفَارَقَةِ مَا أَلِفُوهُ مِنَ الدِّيَانَاتِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَتْرُكُونَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامَهُ الَّتِي أَنْزَلَهَا لِأَجْلِ مَا نَقَلُوهُ عَنْ آبَائِهِمْ مِنْ مُعْتَقَدَاتٍ وَعَادَاتٍ وَلَوْ كَانَتْ ضَلَالًا وَاضِحًا ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [الْبَقَرَةِ: 170] وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [الْمَائِدَةِ: 104] وَفِي آيَةٍ ثَالِثَةٍ: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [لُقْمَانَ: 21]، وَفِي آيَةٍ رَابِعَةٍ: ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزُّخْرُفِ: 22]. وَتَكْرَارُ هَذِهِ الْحُجَّةِ مِنْهُمْ، وَذِكْرُهَا فِي الْقُرْآنِ فِي آيَاتٍ عِدَّةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ الصُّدُودِ عَنِ الْحَقِّ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَاطِلَ إِذَا سَادَ فِي النَّاسِ وَأَلِفُوهُ تَعَذَّرَ إِخْرَاجُهُمْ مِنْهُ، وَأَنَّ الْمُنْكَرَ إِذَا اسْتَوْطَنَ بَلَدًا عَسُرَ اقْتِلَاعُهُ مِنْهَا.
·    وَتَتَابُعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى دَعْوَةِ أَقْوَامِهِمْ لِلتَّوْحِيدِ مَعَ رَفْضِ أَقْوَامِهِمْ لِدَعَوَاتِهِمْ، وَتَتَابُعِهِمْ عَلَى ذَاتِ الْحُجَّةِ -وَهِيَ الْإِحَالَةُ عَلَى مَا كَانَ يَعْبُدُ الْآبَاءُ- لَيُؤَكِّدُ خُطُورَةَ إِلْفِ الْبَاطِلِ وَاعْتِيَادِهِ؛ فَهُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى التَّوْحِيدِ فَأَجَابُوهُ قَائِلِينَ: ﴿أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ [الْأَعْرَافِ: 70] وَدَعَا صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمَهُ إِلَى التَّوْحِيدِ فَكَانَتْ حُجَّتُهُمْ كَحُجَّةِ عَادٍ: ﴿قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ [هُودٍ: 62] وَدَعَا شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمَهُ لِلتَّوْحِيدِ فَقَالُوا كَمَا قَالَتْ عَادٌ وَثَمُودٌ: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ [هُودٍ: 87].
·    وَدَعَا الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمَهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَتَرْكِ الْأَصْنَامِ فَأَحَالُوهُ عَلَى مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ، قَالَ لَهُمْ: ﴿مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: 52-53].
·    بَلْ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَاوَلَ تَحْرِيكَ عُقُولِهِمْ، وَإِثْبَاتَ أَنَّ أَصْنَامَهُمْ مُجَرَّدُ أَحْجَارٍ لَا تَسْمَعُ وَلَا تَنْطِقُ وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَكِنَّ غَلَبَةَ الْعَادَةِ مَنَعَتْ قَبُولَ الدَّعْوَةِ، رَغْمَ أَنَّ الْعَادَةَ تُخَالِفُ الْعَقْلَ الصَّحِيحَ، وَالدَّعْوَةَ تُوَافِقُهُ، فَالْعَادَاتُ أَلْغَتِ الْعُقُولَ، وَغَشَتْ عَلَى الْأَبْصَارِ، فَلَا تَتْبَعُ الْحَقَّ، وَلَا تَهْتَدِي إِلَى الصَّوَابِ، قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُحَاجِجُ قَوْمَهُ فِي عِبَادَتِهِمْ لِلْأَصْنَامِ: ﴿هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: 72 - 74] لَيْسَ لَهُمْ سِوَى هَذِهِ الْحُجَّةِ؛ وَهِيَ أَنَّ آبَاءَهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ، مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهَا أَحْجَارٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ.
·    وَتَاللَّهِ إِنَّ اسْتِدْلَالَهُمْ هَذَا لَيَدُلُّ عَلَى خُطُورَةِ تَوْطِينِ الْبَاطِلِ فِي النَّاسِ، وَتَطْبِيعِهِمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَأْلَفُوهُ، فَإِنَّهُ يَعْسُرُ بَعْدَ ذَلِكَ اقْتِلَاعُهُ مِنْ أَوْسَاطِهِمْ، وَإِخْرَاجُهُ مِنْ عُقُولِهِمْ وَوِجْدَانِهِمْ مَهْمَا كَانَ شَاذًّا وَغَرِيبًا، وَمَهْمَا كَانَ وُضُوحُ بُطْلَانِهِ وَظُهُورُهُ، وَإِذَا عَمِيَتِ الْعُقُولُ تَبِعَتْهَا فِي عَمَاهَا الْأَسْمَاعُ وَالْأَبْصَارُ ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الْفُرْقَانِ: 44].
·    وَفِي مُجَادَلَةِ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحَالُوا أَيْضًا عَلَى مَا أَلِفُوهُ عَنِ الْآبَاءِ: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [يُونُسَ: 78].
·    وَهَذِهِ الْحُجَّةُ قَدْ قَالَهَا جَمِيعُ الْمُعَارِضِينَ لِدَعَوَاتِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ قَالُوا لِرُسُلِهِمْ: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ [إِبْرَاهِيمَ: 10] وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزُّخْرُفِ: 23- 24].
·    هَذِهِ الْحُجَّةُ الَّتِي مَنَعَتْهُمْ مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ هِيَ الَّتِي خَتَمَ بِهَا أَبُو طَالِبٍ حَيَاتَهُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ: «يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
·            عَجَزَ أَبُو طَالِبٍ أَنْ يَقُولَ كَلِمَةَ الْحَقِّ حَتَّى عِنْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَاشَ عَلَى الْبَاطِلِ وَأَلِفَهُ، فَأَحَبَّ أَنْ يَمُوتَ عَلَيْهِ.
·    وَبِهَذَا نَعْلَمُ خُطُورَةَ تَوْطِينِ الْمُنْكَرَاتِ، وَتَطْبِيعِ النَّاسِ عَلَيْهَا حَتَّى يَأْلَفُوهَا فَيَصْعُبَ إِخْرَاجُهُمْ مِنْهَا، أَوِ اقْتِلَاعُهَا مِنْ أَوْسَاطِهِمْ؛ وَلِذَا فَإِنَّ مُكَافَحَةَ الْمُنْكَرِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَمُدَافَعَتَهُ حَالَ وُقُوعِهِ، وَتَحْذِيرَ النَّاسِ مِنْهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ؛ أَهْوَنُ مِنْ صَرْفِهِمْ عَنْهُ بَعْدَ إِلْفِهِمْ لَهُ، وَاعْتِيَادِهِمْ عَلَيْهِ.
·    نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَنْصُرَ الْمُصْلِحِينَ، وَيَكْبِتَ الْمُفْسِدِينَ، وَأَنْ يَحْفَظَ بِلَادَنَا وَبِلَادَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُوبِقَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾  [هُودٍ: 117].
·            بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...

الخطبة الثانية
·    الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
·    أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾  [آلِ عِمْرَانَ: 104].
·    أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: بَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ تَوْطِينَ مُنْكَرٍ مَا لَا يَضُرُّهُ مَا دَامَ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِهِ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ إِلَّا إِنْكَارُ الْقَلْبِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى خُطُورَةِ تَوْطِينِ الْمُنْكَرِ الْآنِيَّةِ مِنْ رَفْعِ النِّعَمِ، وَنُزُولِ النِّقَمِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى أَثَرِ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ. لَكِنْ قَلَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَفْطِنُ إِلَى خُطُورَةِ تَوْطِينِ الْمُنْكَرِ عَلَى الْأَجْيَالِ الْمُتَعَاقِبَةِ، فَيُنْكِرُهُ وَيَدْفَعُهُ مَا اسْتَطَاعَ وَنَظَرُهُ عَلَى أَحْفَادِهِ وَأَحْفَادِهِمْ؛ لِيَحْفَظَهُمْ مِنْ تَوْطِينِ مُنْكَرٍ يُولَدُونَ عَلَيْهِ فَيَأْلَفُونَهُ وَيَعْتَادُونَهُ. وَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَرَأَى تَتَابُعَ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِأَفْعَالِ الْآبَاءِ خَافَ مِنْ تَوْطِينِ الْمُنْكَرَاتِ بِحَيْثُ تَتَعَاقَبُ أَجْيَالٌ تَحْتَجُّ عَلَى صِحَّةِ الْمُنْكَرَاتِ بِوُجُودِهَا فِي الْآبَاءِ.
·    وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَفَكَّرَ الْمُؤْمِنُ فِي قِصَّةِ قُرَيْشٍ وَتَبْدِيلِهِمْ لِدِينِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى أَلِفُوا الشِّرْكَ فَمَاتَ أَبُو طَالِبٍ عَلَيْهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ رَأْسِهِ يُلَقِّنُهُ شَهَادَةَ الْحَقِّ.
·    لَقَدْ كَانَتْ مَكَّةُ فِي أَيْدِي جُرْهُمٍ، حَتَّى جَاءَتْ خُزَاعَةُ فَانْتَزَعَتْهَا مِنْهُمْ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيُّ رَأْسَهُمْ، فَبَدَّلَ دِينَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الشِّرْكِ، فَعَاشَتْ أَجْيَالٌ كَثِيرَةٌ عَلَى الشِّرْكِ فِي عَهْدِ خُزَاعَةَ، ثُمَّ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ، وَمَاتَ أَجْدَادُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الشِّرْكِ رَغْمَ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ تَوْحِيدِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا تَغْيِيرُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ لِدِينِهِ إِلَى الشِّرْكِ، وَتَوْطِينِهِ فِي مَكَّةَ، فَأَلِفَتْهُ خُزَاعَةُ، ثُمَّ وَرِثَتْهُ قُرَيْشٌ بَعْدَهَا، فَيَا لِلَّهِ الْعَظِيمِ مَا أَعْظَمَ تَوْطِينَ الْمُنْكَرِ، وَمَا أَشَدَّ فَتْكَهُ بِالْأَجْيَالِ الْمُتَعَاقِبَةِ.
·    وَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَثَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً فِي مَكَّةَ لِيَقْتَلِعَ مُنْكَرَاتِ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ الَّتِي وَطَّنَهَا فِيهَا، فَمَا اسْتَجَابَتْ لَهُ قُرَيْشٌ، حَتَّى مَاتَ أَكْثَرُ كُبَرَائِهَا عَلَى الشِّرْكِ، وَمَا رَضَخُوا لِدَعْوَةِ الْحَقِّ إِلَّا بَعْدَ الْفَتْحِ، فَحَذَارِ حَذَارِ -عِبَادَ اللَّهِ- مِنْ إِلْفِ الْمُنْكَرَاتِ وَاعْتِيَادِهَا، بَلْ يَجِبُ دَفْعُهَا وَإِنْكَارُهَا وَتَحْذِيرُ النَّاسِ مِنْهَا؛ حِفْظًا لِلْأَمْنِ وَالنِّعَمِ، وَدَفْعًا لِلْعَذَابِ وَالنِّقَمِ، وَحِمَايَةً لِلْأَجْيَالِ الْقَادِمَةِ مِنْ أَنْ تَنْشَأَ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ فَتَأْلَفَهَا حَتَّى تُوبِقَهَا كَمَا أَوْبَقَتْ قُرَيْشًا مُنَكَرَاتُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيِّ. ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾  [يُونُسَ: 13- 14].
·            وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...


خطبة للشيخ الدكتور/

إبراهيم بن محمد الحقيل
غفر له ولوالديه ونفع بعلمه





فوائد مقتطفة من رسالتي


مما يدل على عظم مَنْزِلَة الصلاة وبَالِغِ أهَمِّيَتِها:
1-            كَثْرَةُ النُّصُوصِ وَوَفْرَتِها الوَارِدَةِ فِي شَأنِ الصَّلاةِ.
ذَكَرَ ابْنُ حِبَّانَ : فِي صَحِيحِهِ (5/182) أنَّهُ: (في أرْبَعِ ركَعَاتٍ يُصَلِّيهَا الإنْسَانُ سِتُّ مَائَة سَنَّةٍ عَنْ النَّبِي r، أخْرَجْنَاهَا بِفُصُولِها فِي "كِتَابِ صِفَةَ الصَّلاةِ")، وقَالَ ابنُ القَيِّمِ : فِي مَدَارِجِ السَّالِكِين (2/370): ( وَلمْ يُوفِّ الصَّلاةَ آدَابَهَا الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ اللهِ r وَفَعَلَهَا، وهِي قَريبٌ مِنْ مِائةِ أدَبٍ: مَا بَيْنَ وَاجِبٍ ومُسْتَحَبٍّ)، وحُكِيَ عنْ عبدِ الرحمنِ العَيْدَرُوس في فهرس الفهارس (2/741): ( أنَّهُ دَخَلَ فِي مِصْرَ عَلَى العُلَمَاءِ فِي الأزْهَر وَهُم يَنْتَخِبُونَ مَنْ يَصْلُحُ لِإمَامَةٍ         مَاتَ صَاحِبُها، فَاسْتَشَارُوهُ، فَقالَ: لَا أُؤهِّلُ لهَا إلاّ مَنْ يَعُدُّ لصَلاةٍ واحِدَةٍ خَمْسَ مِائَةِ سُنَّة يَسْتَحْضِرُها، فَعَجِبُوا لِذَلكَ وَطَلَبُوهُ فِي عَدِّهَا، فَعَدَّهَا لهُم ) .
2-             شُمُولِيَّةُ الصَّلاةِ لأنْواعٍ كَثِيرَةٍ مِنْ العِبَاداتِ.
وفِي هَذا يَقولُ مَحمَّدُ بنُ نَصْرٍ المـَرْوَزِيُّ في تعظيم قدر الصلاة (1/268): ( فَلا عَمَلَ بَعْدَ تَوْحِيدِ اللهِ أفْضَلَ مِنْ الصَّلاةِ للهِ، لأنَّهُ افْتَتَحَها بِالتَّوحِيدِ والتَّعظِيمِ للهِ بِالتَّكِبيرِ، ثمَّ الثَّنَاءِ عَلَى اللهَ، وهِي قِرَاءةُ فَاتِحةِ الكِتَابِ، وهِي حَمْدٌ للهِ وثَنَاءٌ عَليْه، وتَمْجِيدٌ لهُ وَدُعَاءٌ، وكَذَلكَ التَّسْبِيحُ فِي الرُّكوعِ والسُّجُودِ والتَّكْبِيراتُ عِندَ كُلِ خَفْضٍ وَرفْعٍ، كُلُ ذَلِكَ تَوْحيدٌ للهِ وتَعْظِيمٌ لهُ، وخَتَمَها بِالشَّهَادَةِ لهُ بِالتَّوحِيدِ، ولِرَسُولِهِ بِالرِّسَالةِ، ورُكُوعُها وسُجُودُها خُشُوعًا لهُ وتَواضُعًا، ورَفْعُ اليَّدَيْنِ عِندَ الافْتِتَاحِ والرُّكُوعِ، وَرَفْعِ الرَّأسِ تَعْظِيمًا للهِ وإجْلَالًا لهُ، وَوضعُ اليَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ بِالانْتِصَابِ للهِ تَذَلُلًا لهُ، وإذْعَانًا بِالعُبُودِيَّةِ ).
وهَذا يُذَكِّرُنَا بِقَاعِدةٍ مُهمَّةٍ، وهِيَ: إذَا اتَّحَدَ جِنْسُ الصِّفاتِ؛ كَانَ المـُتَّصِفُ بِأكْثَرِهَا أفْضَلَ مِنَ المـُتَصِفِ بِأقَلِها([1])، فكُلَّمَا زَادَتْ الصِّفَاتُ؛ زَادَ التَّفْضِيلُ، فَالقَدْرُ الزَّائِدُ يَزْدَادُ بِسَبَبِهِ الفَضْلُ([2])([3]).


([1]) انظر: شجرة المعارف والأحوال للعز بن عبد السلام (20).
([2]) انظر: فتح الباري لابن حجر (13/489).
([3]) وإتْمَامًا لِلفَائِدةِ؛ يَحْسُنُ بِنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَمْرَينِ: الأوَّلُ: "أنَّ التَّفْضِيلَ بَيْنَ العِبَادَاتِ تَفْضِيلُ جِنْسٍ لا تَفْضِيلَ أفْرَادٍ". الثَّانِي: "أنَّ التَّفْضِيلَ لا يَتَضَمَّنُ التَّنْقِيصَ". انظر: "المـُفاضَلةِ بيْنَ العِبادَات، قَواعِدٌ وتطبِيقَاتٌ" للدكتور: سليمان محمد النجران  (159-196).

الجمعة، 18 أكتوبر 2019

فوائد مقتطفة من رسالتي


فائدة لغوية من إسناد كلمة "أصول" إلى كلمة "الفقه"

الإِضَافةُ فِي اللغَةِ: "الإِسْنَادُوفِي اصْطِلاحِ النُّحَاةِ: "اسْنَادُ اسْمٍ إِلَى غَيرِهِ"، ويُقْصَدُ بِهَا: "اخْتِصَاصُ المـُـضَافِ بالمـُـضَافِ إِليْهِ"، فَإنْ كَانَ المـُـضَافُ اسْمًا جَامِدًا؛ أفَادَتْ مُطْلَقَ الاختِصَاصِ، كَـ "حَجَرِ زَيْدٍ"، وإنْ كَانَ المـُـضَافُ مُشْتَقًّا؛ أفَادَتْ اختِصَاصَ المـُـضَافِ بِالمـُـضَافِ إليْهِ فِي المـَعْنَى المــُـشْتَقِّ مِنْهُ، كَـ "كَاتِبِ المــَـــلِكِ"، إذْ يُفِيدُ اخْتِصَاصُهُ بِالمـَـلِكِ فِي الكِتَابَةِ.
وبِاعْتِبَارِ مَفهُومِ الإضَافَةِ في قولنا: "أصول الفقه"؛ فَإنَّ "أصُولَ" مِنْ قَبِيلِ المــُشتَقِّ، فَتُفِيدُ هُنَا اخْتِصَاصَ "الأصُولِ" بِـ "الفِقَهِ" فِي مَعْنَى لفْظَةِ "الأصُولِوالمشْهُورُ أنَّ "الأصُولَ" فِي اللُّغَةِ: "مَا يُبْنَي عَلَيهِ غَيرُهُ"، ثُمَّ نُقِلَ إِلى مَعَانِيهِ المـُتَعَدِّدَةِ، ومِنْها: "الدَّلِيلُ"، -واللهُ تباركَ وتعالى أجلُّ أعلمُ-.
انظر: شرح شذور الذهب لابن هشام (175)، والتقرير والتحبير (1/34)، والإبهاج لابن السبكي (1/71).

فوائد مقتطفة من رسالتي



التلقيب بالدين والإسلام ونحوهما 

التَّلْقِيبُ مُضَافًا إلى "الدِّينِ" و"الإسلام" كـ "تاج الدين"، و"شيخ الإسلام" ونحوهما؛ مِنْ مُحْدَثَاتِ القُرُونِ المـُـتَأخِرَةِ، مِمَّا وَرَدَتْ بِهِ الأَعَاجِمُ عَلى العَربِ المسْلِمِينَ، فَلا عَهْدَ للقُرُونِ المـُفْضَلةِ بِذَلِكَ، فَيَحْرُمُ تَلْقِيبُ الكَافِرُ بِذَلِك، ويُلْحَقُ بِهِ المـُـبْتدِعُ والفَاسِقُ والمـَاجِنُ، وفِيمَا عَدَا ذَلكَ مُخْتَلَفٌ فيه بَيْنَ الحُرمَةِ والكَرَاهِةِ والجَوازِ، والأكْثَرُ عَلى كَراهَتِهِ.
انظر: مجموع الفتاوى (26/311)، ومُعْجم المناهِي اللفظية لبكر أبو زيد (92).

قاعدة: الاستثناء من النفي؛ هل هو إثبات؟


قاعدة: الاستثناء من النفي؛ هل هو إثبات؟

أوَّلًا: التَّعْرِيفُ بِالقَاعِدَةِ:
الاسْتِثْنَاءُ فِي اللُّغَةِ: بِمَعْنَى "العَطْفِ والرَّدِ"، فَهُوَ اسْتِفْعَالٌ، مِنْ ثَنَيْثُ الشَّيْءَ، أَثْنِيهِ ثَنْيًا، إِذَا: عَطَفْتَهُ وَرَدَدْتُهُ([1])، وَاصْطِلَاحًا: "الْإِخْرَاجُ بِإِلَّا أَوْ إحْدَى أَخَوَاتِهَا"([2]).
وَالاثْبَاتُ فِي اللُّغَةِ: بِمَعْنَى "الاسْتِقْرَارِ"، يُقَالُ: ثَبَتَ الشَّيْءُ، يَثْبُتُ ثُبُوتًا؛ إِذَا: دَامَ وَاسْتَقَرَّ([3])، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَعْرِيفُ النَّفْيِّ([4]).
وَالمَعْنَى الإجْمَالِيُّ لِلقَاعِدَةِ؛ هَلْ المـُسْتَثْنَى -وَهُوَ مَا بَعْدَ إِلَّا أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا- يِكُونُ مُثْبَتًا بِخِلَافِ المـُسْتَــثْنَى مِنْهُ إِذَا كَانَ مَنْفَيًّا؛ أَوْ لَا ؟
ثَانِيًا: أقْوَالُ العُلَمَاءِ فِي القَاعِدَةِ:
اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي قَاعِدَتِنَا عَلَى قَوْلَينِ:
القَوْلُ الأَوَّلُ: ذَهَبَ أَئِمَّةُ أَهْلِ اللُّغَةِ([5])، وَجُمْهُورُ الأُصُولِيِّينَ([6]) مِنَ: المالِكِيَّةِ([7])([8])، وَالشَّافِعِيَّةِ([9])، وَالحَنَابِلَةِ([10]), وَبَعْضِ الحَنَفِيَّةِ([11]) إِلى القَوْلِ بِـ"أَنَّ الاسْتَثْنَاءَ مِنَ النَّفَيِّ إِثْبَاتٌ".
وَالقَوْلُ الثَّانِي؛ قَالَ بِهِ أَكْثَرُ الحَنَفِيَّةِ([12])؛ وَهُوَ: "أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِّ لَيْسَ بِإِثْبَاتٍ"، وَأَنَّ المـُسْتَثْنَى مَسْكُوتٌ عِنْ حُكْمِهِ، وَفَائِدَةُ الاسْتِثْنَاءِ حِيْنَئذٍ إِنَّمَا هِيَ إِخْرَاجُ المـُسْتَثْنَى عَنْ دُخُولِهِ فِي المـُسْتَثْنَى مِنْهُ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِنَفْيِهِ وِلَا إِثْبَاتِهِ.
وَيَتَّضِحُ جَلِيًّا مَحَلُّ النِّزَاعِ فِي قَاعِدَتِنَا بَيْنَ الحَنَفِيِّةِ وَالجُمْهُورِ مِنْ خِلَالِ مَا قَالَهُ  القَرَافِيُّ :، حَيْثُ قَالَ: ( اتَّفَقَ العُلَمَاءُ -أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ- عَلَى أَنَّ "إِلَّا" لِلإِخْرَاجِ, وَأَنَّ الْمُستَثْنَى مُخْرَجٌ, وَأَنَّ كُلَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ نَقِيضٍ دَخَلَ فِي النَّقِيضِ الآخَرِ, فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَبَقِيَ أَمْرٌ رَابِعٌ مُخْتَلَفٌ فِيْهِ, وَهُوَ: أَنَّهُ إِذَا قُلْنَا "قَامَ القَوْمُ" فَهُنَاكَ أَمْرَانِ: القِيَامُ وَالحُكْمُ بِهِ, فَاخْتَلَفُوا: هَلْ الْمُستَثْنَى يَخْرُجُ مِنَ القِيَامِ, أَوْ الحُكْمِ بِهِ؟ فَنَحْنُ نَقُولُ: مِنَ القِيَامِ, فَيَدْخُلُ فِي نَقِيضِهِ -وَهُوَ عَدَمُ القِيَامِ-, وَالحَنَفِيَّةُ يَقُولُونَ: هُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ الحُكْمِ, فَيَخْرُجُ لِنَقِيْضِهِ -وَهُوَ عَدَمُ الحُكْمِ-, فَيَكُونُ غَيْرُ مُحْكُومٍ عَلَيْهِ, فَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونُ قَائِمًا وَألَّا يِكُونُ قَائِمًا, فَعِنْدَنَا انْتَقَلَ إِلى عَدَمُ القِيَامِ, وَعِنْدَهُمْ انْتَقَلَ إِلَى عَدَمِ الحُكْمِ, وِعِنْدَ الفَرِيقَينِ مُخْرَجٌ وَدَاخِلٌ فِي نَقِيْضِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ, فَافْهَمْ ذَلِكَ حَتَّى      يَتَحَرَّرَ لَكَ مَحَلُّ النِّزَاعِ )([13]) اﻫ.
--------------------------------------------

 تَأثِيرُ القَاعِدَةِ فِي الفروع الفقهية.
وَفِيْهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ:
هَلْ تُؤدَّى الفَائِتَةُ فِي اليَوْمِ التَّالِيِ مَعَ أَدَاءِهَا وَقْتَ ذِكْرِهَا؟
جُمْهُورُ أَهْلِ العِلْمِ([14])؛ "أَنَّ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا، ثُمَّ ذَكَرَهَا، فَإِنَّهُ يُعِيْدُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً إِذَا ذَكَرَهَا، وَلَا يُعِيْدُهَا مَرَّةً ثَانِيَةً".
وَثَمَّةَ قَوْلٌ آَخَرُ([15]): "أَنَّهُ يُعِيْدُهَا إِذَا ذَكَرَهَا، ثُمَّ يُعِيْدُهَا مِنَ الغَدِ لِوَقْتِهَا"، وَهَذَا القَوْلُ مَنْسُوبٌ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ، وَنَفَرٍ مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ([16]).
وَجْهُ ارْتِبَاطِ المَسْأَلَةِ بِالقَاعِدَةِ:
يَظْهَرُ وَجْهُ تَأْثِيرِ القَاعِدَةِ فِي مَسْأَلَتِنَا مِنْ خِلَالِ مَا أَوْرَدَهُ المجْدُ ابْنُ تَيْمِيَةَ : مِنَ الأَحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا جُمْهُورُ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا، ثَمَّ ذَكَرَهَا، فَإِنَّهُ يُعِيدُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً إِذَا ذَكَرَهَا، وَلَا يُعْيدُهَا مَرَّةً ثَانِيَةً"، وَمِنْهَا حَدِيثُ:  (( مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ ))([17]).
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الحَدِيثِ قَوْلُهُ r: (( لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ ))، وَفِيهِ أَنْ لَيْسَ عَلَى مِنْ نَامَ عَنْ صَلَاتِهِ أَوْ نَسِيَهَا كَفْارَةٌ إِلَّا أَنْ يُؤَدِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَفِي الحَدِيثِ اثْبَاتٌ اسْتُثْنِيَ مِنْ نَفْيٍ، وَالاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ اثْبَاتٌ، وَاللهُ I أَعْلَمُ.



([1]) انظر: المصباح المنير (1/85)، وتاج العروس (37/282-283).
([2]) انظر: التحبير شرح التحرير (6/2536).
([3]) انظر: المصباح المنير (1/80)، وتاج العروس (4/472).
([4]) انظر: المبحث الرابع من هذا الفصل (255).
([5]) انظر: الاستغناء في أحكام الاستثناء (549).
([6]) نَسَبَهُ إليهم: ابن اللحام في القواعد (2/1065)، والزركشي في البحر المحيط (3/301).
([7]) انظر: مختصر ابن الحاجب (2/816) وشرحه تحفة المسؤول (3/214)، وشرح تنقيح الفصول (193).
([8]) اسْتَثْنَى المـَـالِكِيَّةُ مِنْ هَذِهِ القَاعِدَةِ: الأَيْمَانِ، بِمَعْنَى: أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِّ لَيْسَ بِإِثَبِاتٍ        فِي الأَيْمَانِ". قَالَ القَرَافِيُّ :: ( اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ :: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ     إثْبَاتٌ فِي غَيْرِ الْأَيْمَانِ, هَذِهِ قَاعِدَتُهُ فِي الْأَقَارِيرِ، وَقَاعِدَتُهُ فِي الْأَيْمَانِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ      النَّفْيِ لَيْسَ بِإِثْبَاتٍ ) اﻫ. انظر: الفروق (2/525)، الفرق رقم (72).
([9]) انظر: منهاج البيضاوي (128)، وشرحه نهاية السول (1/501)، والمحصول (3/39).
([10]) انظر: أصول ابن مفلح (3/930)، والمسودة (1/360)، وشرح الكوكب المنير (3/327).
([11]) منهم: البزدوي في كنز الوصول (474)، والسرخسي في أصوله (2/41).
([12]) انظر: تيسير التحرير (1/332)، التلويح على التوضيح (2/51-52)، وفواتح الرحموت (1/334 و339).
([13]) نفائس الأصول (2/602-603).
([14]) انظر: فتح الباري لابن رجب (5/126)، وانظر قَوْلَ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ: "قَضَاءِ الصَّلَاةِ الفَائِتَةِ" الَّتِي تَقَدَّمَ بَحْثُهَا فِي المبحث الرابع عشر من هذا الفصل (335).
([15]) انظر: فتح الباري لابن رجب (5/126)، ونخب الأفكار للعيني (7/151).
([16]) قَالَ الخَطَّابِيُّ : فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ (1/139): ( فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الفُقَهَاءِ قَالَ بِهَا وُجُوبًا وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الأَمْرُ بِهِ اسْتِحْبَابًا، لِيُحْرِزَ فَضِيْلَةَ الوَقْتِ فِي القَضَاءِ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: (لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ بِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ أَيْضًا ). إِلَّا أَنَّ البُخَارِيَّ : بَوَّبَ فِي صَحِيحِهِ (1/472) بَابًا فِي كِتَابِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ بِعِنْوانِ: "بَابُ مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَ، وَلاَ يُعِيدُ إِلَّا تِلْكَ الصَّلاَةَ"، انظر: المبحث الرابع عشر من هذا الفصل (335).
([17]) تقدم تخريجه (335).