أوَّلًا: التَّعْرِيفُ
بِالقَاعِدَةِ:
الأَمْرُ فِي
اللُّغَةِ:
"الطَّلَبُ والْمَأْمُورُ بِهِ"، وَفِي التَّنْزِيل
الْعَزِيز: ﱡﭐ ﳁ ﳂ ﱠ [هود:44]، جَمْعُهُ: أوَامِرُ([2]).
واصْطِلَاحًا:
عُرِّفَ "الأَمْرُ"
بِتَعْرِيفَاتٍ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ([3])،
مِنْ أشْهَرِهَا وأصْحِّهَا: "اسْتِدْعَاءُ الفِعْلِ بِالقَوْلِ عَلَى وَجْهِ
الاسْتِعَلَاءِ"([4]).
والشَّيءُ فِي اللُّغَةِ: "مَا يَصحُّ أَنْ يُعْلَمَ ويُخْبَرَ
عَنهُ"، فَيشْمَلُ
الْمَوْجُودَ والمـَعْدُومَ، مُمكنًا أَو مُحَالًا([5])، وفِي
الاصْطِلَاحِ -خَاصٌ
بِالمـَوْجُودِ-، وَهُوَ: "اسْمٌ لِأيِّ
مَوْجُودٍ ثَابِتٍ مُتَحَقِّقٍ، يَصِحُ أنْ يُـتـَصَوَّرَ وَيُخْبَرَ عَنْهُ، سَواءً
أكَانَ حِسِّيًّا أوْ مَعْنَويًا([6]).
والمَعْنَى
الاجْمَالِيُّ للقَاعِدَةِ؛ أنَّ مَنْ أمَرَ غَيْرَهُ -لَا عَلَى
سَبْيلِ التَّبْلِيغِ- بَأمْرٍ؛ وتَرَتَّبَ عَلَى الأمْرِ الأوَّلِ أمْرٌ آخَرَ لِثَالِثٍ؛
فَإنَّ الثَّالِثَ لَا يُعَدُّ مَأمُورًا بِالأمْرِ الأوَّلِ.
ثَانِيًا: تَحْرِيرُ
مَحَلِّ النَّزَاعِ:
قَالَ القَرافِيُّ
:: (
الأصْلُ أنَّ الأمْرَ بِالأمْرِ لَا يَكُونُ أمْرًا )([7])،
ولِذَلِكَ؛ فَإنَّ المـَشْهُورَ عِنْدَ جُمْهِورِ الأصُولِيينَ مِنَ: الحَنَفِيَّةِ([8])
والمالِكِيَّةِ([9])
والشَّافِعِيَّةِ([10])
والحَنَابِلَةِ([11])
أنَّ: "الأمْرَ بِالأمْرِ لَيْسَ بِأمْرٍ"، وحَكَى الزَّركَشِيُّ
عَنْ بَعْضِهمْ([12])، أنَّ: "الأمْرَ بِالأمْرِ أمْرٌ".
والمَسْأَلَةُ
تَحْتَاجُ إلى شَيءٍ مِنَ التَّحْقِيقِ والتَّدْقِيقِ، وذَلِكَ فِي صُورَتَينِ، فَأقُولُ مُسْتَعِينًا بِاللهِ I:
الصُّورَةُ الأوُلَى: إذَا
لمْ يَكُنْ ثَمَّةَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى أنَّ المـَأمُورَ الأَوَّلَ لَيْسَ مُبَلِّغًا،
حِينَئِذٍ نَقُولُ: ثمَّةَ أمْرانِ فِي المَسْألَةِ: "أمْرُ الأوَّلِ لِلثَّانِي"،
و"أمْرٌ مِنَ الثَّانِي لِلثَّالِثِ"، فَالأمْرُ الأوَّلُ؛ لَا خِلَافَ فِي كَوْنِهِ
أمْرًا، والثَّانِي هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ فِي المَسْألَةِ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ
العِيدِ ::
( يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فِي أَنَّ لَوَازِمَ
صِيغَةِ الْأَمْرِ: هَلْ هِيَ لَوَازِمُ لِصِيغَةِ الْأَمْرِ بِالْأَمْرِ،
بِمَعْنَى أَنَّهُمَا: هَلْ يَسْتَوِيَانِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الطَّلَبِ مِنْ
وَجْهٍ وَاحِدٍ، أَمْ لَا)([13])، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ ::
( وَهُوَ حَسَنٌ )([14]).
ثُم َّقَالَ ابْنُ حَجَرٍ :: ( فَإِنَّ أَصْلَ المـَسْأَلَةِ الَّتِي انْبَنَى عَلَيْهَا هَذَا الخِلَافُ -يَعْنِي:
"الأمْرُ بِالأمْرِ بِالشَّيءِ ..."- حَدِيثُ: (( مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ لسَبْعِ ))، فَإِنَّ الأَوْلَادَ لَيْسُوا بِمُكَلَّفِينَ، فَلَا يَتَّجِهُ عَلَيْهِمُ
الْوُجُوبُ، وَإِنَّمَا الطَّلَبُ مُتَوَجِّهٌ عَلَى أَوْلِيَائِهِمْ أَنْ
يُعَلِّمُوهُمْ ذَلِكَ، فَهُوَ مَطْلُوبٌ مِنَ الأَوْلَادِ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ،
وَلَيْسَ مُسَاوِيًا لِلْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا إِنَّمَا عَرَضَ مِنْ أَمْرٍ خَارِجٍ
وَهُوَ امْتِنَاعُ تَوَجُّهِ الْأَمْرِ عَلَى غَيْرِ المـُكَلَّفِ )([15]).
ومِنْ خِلَالِ كَلَامِ الحَافِظِ : يَتَبَيَّنُ
لنَا مَا يَلِي:
أوَّلًا: أنَّ
الأصْلَ الَّذِي اعْتَمَدَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الأصُولِيينِ فِي قَوْلِهمْ:
"الأمْرُ بِالأمْرِ بِالشَّيءِ؛ لَيْسَ أمْرًا بِذَلِكَ الشَّيءِ"؛ هُوَ
حَدِيثُ رَسُولِ r: (( مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ
سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ ))([16])،
والمـُـتَأمِّلُ فِي الكِتَابِ والسُّنَّةِ لَا يَكَادُ يَجِدُ مِثَلًا عَلَى قَاعِدَتِنَا
سَوى هَذَا الحَدِيثِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ :
فِي خَاتِمَةِ هَذَه المـَسْأَلَةِ: ( فَالصُّورَةُ
الْأَوْلَى؛ هِيَ الَّتِي نَشَأَ عَنْهَا
الِاخْتِلَافُ، وَهُوَ أَمْرُ أَوْلِيَاءِ الصِّبْيَانِ أَنْ يَأْمُرُوا
الصِّبْيَانَ )([17]).
وفِيهِ إشْكَالٌ عِنْدِي؛ وَهُوَ: أنَّ المـَانِعَ مِنْ
كَوْنِ الأبْنَاءِ دُونَ السَّابِعَةِ لَيْسُوا بِمَأمُورِينَ بِالصَّلَاةِ أمْرَ
إيْجَابٍ؛ لَيْسَ كَوْنُ "الأمْرِ بِالأمْرِ لَيْسَ أمْرًا"، بَلْ هُوَ عَدَمُ
التَّكْلِيفِ، فَهُوَ المـَانِعُ مِنْ
كَوْنِ الأمْرِ مُتَوَجِّهًا إليْهِمْ بِالصَّلَاةِ، فَلَوْ كَانَ الأبْنَاءُ مُكَلَّفِينَ؛
لَكَانَ الأمْرُ مُتَوَجِّهًا إليْهِمْ
بِالصَّلَاةِ مِنَ النَّبِيِّ r ومِنْ أوْلِيَاءِهِمْ، كَمَا فِي قَوْلِ البَّارِي
U:
ﱡﭐ ﲠ ﲡ ﲢ ﱠ [طه:
132]، فَإنَ خَطَابَهُ I مُتَوَجِّهٌ إلى الأوْلِيَاءِ بِأمْرِ أهَلِيهِمْ
بِالصَّلَاةِ، كَمَا هُوَ أنَّ الأمْرَ مُتَوَجِّهٌ إلى الأهْلِينَ بِالصَّلَاةِ،
كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ :: (
فَإِنَّ كُلَّ أحَدٍ يَفْهَمُ مِنْهُ أَمْرَ اللهِ لِأهْلِ بَيْتِهِ بِالصَّلَاةِ )
([18]).
ثَانِيًا: مَفْهُومُ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ : -مِمَّا تَقَدَّمَ-: ( وَهَذَا إِنَّمَا عَرَضَ مِنْ أَمْرٍ خَارِجٍ وَهُوَ امْتِنَاعُ تَوَجُّهِ
الْأَمْرِ عَلَى غَيْرِ المـُكَلَّفِ )؛
أنَّ الأمْرَ الأوَّلَ يَكُونُ مُسَاوِيًا لِلأمْرِ الثَّانِي مَا لمْ يَعْرِضْ أمْرٌ
خَارِجٌ، وَحِيْنَئِذٍ نَقُولُ: بِأنَّ لَوازِمَ صِيغَةِ الأمْرِ؛ لَوازِمٌ لِلأمْرِ
بِالأمْرِ، بِمْعَنى:
أنَّ الأمْرَ الأوَّلَ والأمْرَ الثَّانِي يَسْتَوِيانِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى
الطَّلَبِ، وإنْ كَانَ الأمْرُ الأوَّلُ آكَدُ مِنَ الأمْرِ الثَّانِي فِي الغَالِبِ.
والخُلاَصَة ُمِمّا تَقَدّمَ: أنَّ الأمْرَ المـُجَرَّدَ عَنِ القَرِينَةِ الصَّارِفَةِ
لَهُ عَنْ الدَّلَالَةِ على الطَّلَبِ؛ "أَمْرٌ لِلأوَّلِ والثَّانِي مَعًا"
وإنِ اخْتَلفَا فِي دَلَالَةِ كُلٍ مِنْها عَلَى الطَّلَبِ، فَقَدْ يَكُونُ الأمْرُ الأوَّلُ طَلَبًا
جَازِمًا والثَّانِي غَيرَ جَازِمٍ، وقَدْ يَكُونَا مَعًا طَلَـبًا جَازِمًا أوْ غَيرَ جَازِمٍ، وَهَذِهِ هِي الصُّورَةُ
الأُولَى الَّتِي وَقَعَ فِيْهَا النِّزَاعُ عِنْدَ الأصُولِيِّينَ.
أمَّا قَوْلُ ابْنُ الحَاجِبِ: ( لَوْ كَانَ([19])؛ لَكَانَ (( مُرْ عَبْدَكَ بِكَذَا
)) تَعَدِّيًا )([20])؛ فَإنَّهُ خَارِجُ مَحَلِ نِزَاعِنَا، لِأنَّ
البَّاري I: ﱡ ﭐ ﲐ ﲑ ﲒ ﱠ [الأعراف:
54]، ﱡﭐ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﱠ [الرعد :41]، فَهُوَ I حَاكِمٌ عَلَى خَلْقِهِ أجْمَعِينَ.
قَالَ الرَّازِيُّ([21]) :: ( الحَقُّ أَنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا قَالَ
لِزَيْدٍ: (( أَوْجَبْتُ
عَلَى عَمْرٍو كَذَا )) وَقَالَ لِعَمْرٍو: ((كُلُّ مَا أَوْجَبَ عَلَيْكَ زَيْدٌ فَهُوَ وَاجِبٌ
عَلَيْكَ ))؛ كَانَ
الْأَمْرُ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ أَمْرًا بِالشَّيْءِ )([22]).
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ : عَقِبَ كَلَامِ الرَّازِيِّ :: ( وَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ
الْأَمْرِ الصَّادِرِ مِنْ رَسُولِ الله r
وَمِنْ غَيْرِهِ، فَمَهْمَا أَمَرَ الرَّسُولُ أَحَدًا أَنْ
يَأْمُرَ بِهِ غَيْرَهُ؛ وَجَبَ، لِأَنَّ اللهَ أَوْجَبَ طَاعَتَهُ، وَهُوَ
أَوْجَبَ طَاعَةَ أَمِيرِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ((مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ الله وَمَنْ أَطَاعَ
أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي))، وَأَمَّا غَيْرُهُ مِمَّنْ بَعْدَهُ فَلَا، وَفِيهِمْ تظهر
صُورَة التَّعَدِّي الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا ابْنُ الْحَاجِبِ ) ([23]).
والصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تَصْرِفُ الأمْرَ
عَنِ المـَأمُورِ الأوَّلِ أوْ عَنِ المـَأمُورِ الثَّانِي، وَهَذَا بَيَانُهُ كَالتَّالِي:
أوَّلًا:
أنْ يُعْلَمَ بِقَرِينَةٍ أنْ الآمِرَ يَقْصِدُ بِالأمْرِ الثَّالِثَ دُونَ الثَّانِي،
ويَكُونُ الثَّانِي مُبَلِّغًا عَنْهُ أمْرَهُ فَحَسبْ، حِيْنَئِذٍ: "لَا
خِلَافَ فِي كَوْنِ الأَمْرِ بِالأمْرِ أمْرٌ"، وهَذَا هُوَ الغَالِبُ مِنْ أوَامِرِ الشَّرِيعَةِ،
كَمَا قَالَ
القَرَافِيُّ :: (
عُلِمَ مِنَ الشَّرِيعَةِ؛ أنَّ كُلَّ مَنْ أمَرَهُ رَسُولُ اللهِ r
أنْ يَأمُرَ غَيْرَهُ؛ فَإِنَما هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّبْلِيغِ، وَمَتَى كَانَ
الأمْرُ كَذَلِكَ؛ صَارَ الثَّالِثُ مَأمُورًا إجْمَاعًا )([24]).
والأمْثِلَةُ
كَثِيرَةٌ جِدًّا، مِنْهَا: قَوْلُهُ r لِعُمَرَ
بنِ الخَطَّابِ
t فِي حَقَّ ابْنِهِ لَمَّا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي الحَيْضِ: (( مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ))([25]).
قَالَ الحَافِظُ
ابْنُ حَجَرٍ :: ( وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّفْيَ([26]) إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ تَجَرَّدَ الْأَمْرِ، ... )، بِمَعْنَي: أنَّ الأمْرَ
بِالأمْرِ لا يَكُونُ أمْرًا إذَا تَجَرَّدَ عَنِ القَرِينَةِ، ثُمَّ قَالَ :: ( وَأمَّا
إِذَا وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآمِرَ الأوَّلَ أَمَرَ الـمَأْمُورَ
الأوَّلَ أَنْ يُبَلِّغَ الـمَأْمُورَ الثَّانِي، فَلَا )، أيْ: فَلَيْسَ
بِنَفْيٍ.
ثَانِيًا: أنْ يُعْلَمَ -بِقَرِينَةٍ- أنَّ الآمِرَ الأوَّلَ يَقْصِدُ
بِالأمْرِ الـمَأْمُورَ الأوَّلَ لا
الثَّانِيَ، وحِيْنَئذٍ: "الأمْرُ بِالأمْرِ لَيْسَ أمْرًا"،
وهَذَا مِثَالُهُ؛
حَدِيثُ مَسْأَلَتِنَا، وَهُوَ : (( مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ لسَبْعِ ))([27])، عُلِمَ بقرينة عَدَمِ تَكْلِيفِ مَنْ هُمْ
دُونَ السَّابِعَةِ أنَّ الأمْرَ يَتَوجَّهُ
إِلى الأوْلِيَاءِ دُونَهُمْ، -هَذَا، وَاللهُ I
أَجَلُّ وَأَحْكَمُ وَأَعْلَمُ-.
ioooop
مَسْأَلَةٌ :
هَلْ الأبْنَاءُ دُونَ السَّابِعَةِ
والعَاشِرَةِ؛ مَأمُورُونَ بِالصَّلَاةِ أمْرَ إيْجَابٍ؟
هَذِهِ المـَسْألةُ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ
حَدِيثٍ أوْرَدَهُ المـَـجْدُ : فِي المـُـنْتَقَى
عَنْ رَسُولِ اللهِ r أنَّهُ قَالَ: (( مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ سِنِينَ،
وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي المَضَاجِعِ
))([28]).
وَلَا خِلَافَ
بَيْنَ العُلَمَاءِ فِي كَونِ "العَقْلِ وَفَهْمِ الخِطَابِ شَرْطَانِ فِي صِحَّةِ
التَّكْلِيفِ"([29])، وَعَلَيْهِ؛ فَإنَّ الصَّبِيَّ غَيرُ مُكَلَّفٍ،
ولَا يَتَعَلَّقُ بِفَعْلِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ بِالإجْمَاعِ([30])، وَعَلَيْهِ؛ فَلا
تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَى صَبِيٍّ لمْ يَبْلُغْ عِنْدَ الفُقَهَاءِ الأرْبَعَةِ([31]).
وَعِنْدَ
أحْمَدَ؛ تَجِبُ عَلَيْهِ لِعَشْرِ سِنِينٍ لِضَرْبِهِ عَلَيْها، وَهِي رِوَايَةٌ
مَرْجُوحَةٌ عُلِّلَتْ بِالاحْتَياطِ([32])، ومِنْ أهْلِ العِلْمِ مَنْ قَالَ: "يُؤْمَرُونَ
بِالصَّلَاةِ نَدْبًا، لَا وُجُوبًا" إذا بَلَغُوا سَبَعَ سِنِينَ إذَا كَانُوا
مُمَيِّزِينَ، ويُضْرَبُونَ عَلَى تَرْكِهَا إذَا بَلَغُوا عَشْرَ سِنِينَ([33])، فَإنْ لمْ يَكُونُوا مُمَيِّزِينَ؛ لمْ
يُؤمَرُوا بِذَلِكَ، لَا وُجُوبًا وَلَا نَدْبًا، لِأنَّها لَا تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ
مُمَيِّزٍ.
يَظْهَرُ لنَا أثَرُ القَاعِدَةِ؛ مِنْ
خِلَالِ الحَدِيثِ الَّذِي أوْرَدَهُ المجْدُ :، وفِيهِ
مِنَ العِلْمِ والفِقْهِ؛ أمْرُ رَسُولِ اللهِ r لِلأوْلِيَاءِ بَأنْ يَأمُرُوا أبْنَاءَهُمْ
بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ سِنِينَ، وأنْ
يِضْرِبُوهُمْ عَلَيْها لِعَشْرٍ، وَلَيْسَ أمْرُ رَسُولِ اللهِ r لِلأوْلِيَاءِ أمْرًا لِلصِّبْيَانِ بِالصَّلَاةِ -عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الأصُولِيِّينَ-،
والصَّوابُ أنَّهُ أمْرٌ لَوْلَا قَرِينَةُ عَدَمِ التَّكْلِيفِ.
قَالَ
العَدَوِيُّ([34]) ::
( قَوْلُهُ: "فَكَيْفَ يُخَاطَبُ بِالصَّلَاةِ"،
أَيْ: فَكَيْفَ يُخَاطِبُهُ الشَّرْعُ بِالصَّلَاةِ؟ قَوْلُهُ: "غَيْرُ
مُخَاطَبٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ"؛ جَوَابٌ بِالْمَنْعِ، هَذَا بِنَاءً عَلَى
أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ لَيْسَ أَمْرًا بِذَلِكَ الشَّيْءِ،
وَالصَّحِيحُ: خِلَافُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ؛ أَمْرٌ
بِذَلِكَ الشَّيْءِ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْ الصَّبِيِّ وَالْوَلِيِّ مُخَاطَبٌ مِنْ
جِهَةِ الشَّرْعِ، أَيْ: النَّدْبِ
وَالْكَرَاهَةِ، وَيَظْهَرُ أَنْ لَا ثَوَابَ لِلصَّبِيِّ عَلَى جَوَابِ
الشَّارِحِ الْمَذْكُورِ، إذْ الثَّوَابُ يَتْبَعُ الْأَمْرَ، وَلَا أَمْرَ
يَتَعَلَّقُ بِالصَّبِيِّ فَلَا ثَوَابَ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الصَّبِيَّ تُكْتَبُ
لَهُ الْحَسَنَاتُ، لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ الصَّحِيحُ ) ([35]).
وَقَالَ
الصَّاوِيُّ([36]) ::
( فَكُلٌّ مِنْهُمَا -يَعْنِي
الأوْلِيَاءَ والصِّبْيَانَ- مَأْمُورٌ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ، لَكِنَّ
الْوَلِيَّ مَأْمُورٌ بِالْأَمْرِ بِهَا، وَالصَّبِيَّ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهَا،
وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ
بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِذَلِكَ الشَّيْءِ
...، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَمْرِ
بِالشَّيْءِ لَيْسَ أَمْرًا بِذَلِكَ الشَّيْءِ المـَبْنِيِّ عَلَى أَنَّ
التَّكْلِيفَ إلْزَامُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ، فَالْوَلِيُّ مَأْمُورٌ مِنْ جِهَةِ
الشَّارِعِ فَيُؤْجَرُ دُونَ الصَّبِيِّ؛ فَإِنَّهُ
مَأْمُورٌ مِنْ جِهَةِ الْوَلِيِّ لِأَجْلِ تَدْرِيبِهِ، فَلَا يَكُونُ مُكَلَّفًا
بِالْمَنْدُوبَاتِ وَلَا بِالْمَكْرُوهَاتِ، وَلَا ثَوَابَ لَهُ وَلَا عِقَابَ
عَلَيْهِ، وَالثَّوَابُ عَلَيْهَا لِأَبَوَيْهِ )([37]).
ioooop
([1]) هَكَذَا
صِيغَةُ القَاعِدَةِ في: التقرير والتحبير (1/379)، والإحكام للآمدي (2/224)،
ومختصر ابن الحاجب (1/681)، وبيان المختصر (1/464)، والتحبير شرح التحرير
(5/2263). وزَادَ عَلَيْها الزركشيُّ في البحر (2/411) "... إِلا أنْ يَنُصَّ الآمِرُ عَلَى ذَلِكَ"،
والقرافي في شرح تنقيح الفصول (119) "... مَا لمْ يَدُلَّ عَلَيهِ دَلِيلٌ".
([21]) هُوَ فَخْرُ
الدِّيْنِ: مُحَمَّدُ بنُ عمَرَ بنِ الحُسَيْنِ بْنِ الحَسَنِ القُرَشِيُّ، سُلْطَان الْمُتَكَلِّمين فِي زَمَانِهِ، وُلِدَ:
سَنَةَ 544 ه، وَتُوفِّيَ سَنَةَ 606 ه، صَنَّفَ: المـَحْصُول
وَالمـَعَالِمَ فِي أُصُولِ الفِقْهِ. انظر: طبقات الشافعية لابن السبكي (8/81)
ولابن قاضي شهبه (2/65).
([36])
هُوَ: أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ الخَلْوَتِيُّ، الشَّهِيرُ بِالصَّاوِيُّ،
فَقِيْهٌ مَالِكِيٌّ، نِسْبَتُهُ إِلى "صَاءِ الحَجَرِ" فِي إِقْلِيمِ
الغَرْبِيَّةِ بِمِصْرَ، وُلِدَ سَنَةَ 1175 ه، وَتُوفِي بِالمـَدِينَةِ المـُـنَوَّرَةِ
سَنَةَ 1241 ه. مِنْ كُتُبِهِ: حَاشِيَةٌ عَلَى تَفْسِيرِ الجَلَالَينِ.
انظر: الأعلام للزركلي (1/246).